ومن حيث كانت الأخبار تصلنا عن الحقول الواسعة الخلابة والخرفان الصحية وأجمل المنتزهات والمحميات الطبيعية في نيوزيلندا، وصلتنا خلال الأيام الحزينة السابقة قصة مفزعة مليئة بالدماء من هذه الجزيرة الرومانسية من المحيط الهادئ. إرهابي معتوه يفتح النار في مسجدين على المصلين، يكتب عدداً من الجمل التي تشير الى معارك تاريخية سابقة بين المسلمين والمسيحيين، والأهم يكتب جملة “اللاجئون، أهلاً بكم في الجحيم”، لتقف البشرية بأكملها اليوم وتتساءل: كيف يمكن لإنسان أن يتحول إلى وحش مفترس؟ كيف تذوب غريزة البقاء والرغبة الطبيعية في حفظ النوع وبالتالي في حماية الآخرين من قلب إنسان ليفتح عليهم نيران سلاحه ويرديهم قتلى في ثوان دون التأثر بالوجوه الفزعة أو الصرخات المسترحمة أو حتى بالمكان التعبدي الهادئ الذي اصطف هؤلاء فيه؟
هكذا تفعل الكراهية، هكذا هي نتيجة التعبئة المستمرة ضد فئة معينة، مؤخراً هي المسلمون حول العالم، ومن أفواه سياسية قوية عززت الأحقاد وغذت المخاوف وأسست لشقاق لا يمكن ردمه. تلك هي طبيعة الأحقاد والمخاوف والشقاقات، تحتاج إلى عقود إن لم يكن إلى قرون لتخفيفها ومن ثم إنهائها، ولا تحتاج إلا لأيام لإعادة بنائها وتعزيزها، لا تحتاج إلا إلى متهور عنصري كاره، يخرج على الناس ليقنعهم أن هذه الفئة تتهدد سلامتهم، تنهب خيراتهم، تخرب عليهم بلادهم، مراراً وتكراراً يدوّر هذا العنصري الكاره هذه الكلمات، يسوقها في كل مناسبة ليعزز بها مخاوف الناس وبالتالي يقوي مركزه كمدافع عنهم، يعيد ويزيد، يكرر ويردد، حتى تستقر في أعماق الناس مخاوف لا تهدأ وحتى تشتعل في نفوس المرضى منهم أحقاد لا تهدأ، ليقرر أحدهم في لحظة مظلمة أن يملأ سلاحه بالرصاص ويفرغه في صدور “الأشرار” ليخلص العالم وبلاده منهم. هكذا هي كل قصة إرهاب، تبدأ بكراهية وتخويف، وتنتهي ببحور من الدماء على يد معتوه متأكد تماماً من أنه المنقذ العتيد.
لا تستهينوا بخطاب الكراهية مهما صغر، لا تعطوه اسماً آخر مهما بدت ألفاظه منطقية وحججه قوية، الكراهية كراهية، لا يجملها منطق ولا يغير طبيعتها حجة. منذ أن بدأ دونالد ترامب رئاسته، بدأ العالم بأكمله يغلي بأحقاد وعنصريات، وإن كانت موجودة سابقاً، إلا أنها لم تجرؤ على الظهور الفاحش في يوم. إلا أن الحقد يجر الأحقاد، والكراهية معدية خارقة الانتشار، لا تحتاج إلا لكلمة، إلا لشعور خوف صغير، حتى تستشري في الناس كالنار في الهشيم. من يصدق أنه بعد ثلاثمئة سنة من الصراع في أميركا لتشكيل “دولة الحريات والحقوق” أن تعود حركة “سيادة البيض” وأن يُبنى جدار عازل بين أميركا والمكسيك، المكسيك التي نهبت أميركا بحد ذاتها قطعا ضخمة من أراضيها، وأن تضطر النساء للخروج مجدداً مطالبة بحقوقهن ومساواتهن؟ من يصدق أن عمل ثلاثمئة سنة ينهيه في أيام خطاب كاره أرعن؟
الكراهية لا عقل لها، لها عينان بشعتان لا تريان سوى السوء، ولها أذنان مشوهتان لا تسمعان سوى قبيح الكلام، ولها لسان لا يختلف عن البندقية، سيقتل ولو بعد حين. لا تستهينوا بخطاب الكراهية مهما صغر، فأثره ممكن أن يأتي على حين غرة، بشكل مفاجئ، ومن مصدر غير متوقع وفي مكان غير متوقع. جريمة نيوزيلندا البشعة أتت نتيجة تعبئة عالمية مستمرة ضد المسلمين، كانت متقدة منذ زمن، إلا أن مفاهيم الحريات واحترام اختلافات الآخرين شكلت مصداً وحماية للمسلمين رغم بعض حالات الإيذاء التي كانوا يعانونها، والتي كانت تشكل استثناءات للقاعدة. الحال تغيرت منذ أن أمسك ترامب بزمام الأمور، حيث اشتعلت جذوة هذه التعبئة بالمخاوف والكراهيات، لترتفع نسبة المضايقات التي تطورت إلى عنف والذي نتج عنه الكارثة الإرهابية الحالية. لم يأخذ هذا التطور البشع زمناً طويلاً، مجرد سنوات قليلة دهورت النفوس والأحوال وأوصلتنا إلى بحر الدماء هذا. لا تستهينوا بخطاب الكراهية مهما صغر، لا تستهينوا به مهما بدا هيناً، كل خطاب كراهية سيصل في النهاية إلى موت ما، موت الضمير، موت الأخلاق، موت البشر.
رحم الله شهداء المسجدين الأبرار، وأسكنهم فسيح جناته.