«فقط انظر للأعلى» هي رسالة فيلم Don’t Look Up أو لا تنظر للأعلى لمخرجه آدم ماكاي. جملة قصيرة وبسيطة هي فحوى رسالة الفيلم، لكنها مؤثرة وجامعة وغزيرة المعنى. الفيلم في ظاهره، يتحدث عن كارثة اصطدام نيزك ضخم بكوكب الأرض محدثاً كارثة قدرية نهائية تنهي الحياة على الكوكب، حيث يتصادم البشر بعضهم ببعض بمطامعهم وفسادهم وبلا شك غبائهم، ليضيعوا ما يفوق الستة أشهر من الزمن المتوفر لهم لينقذوا كوكبهم وحياتهم وبني جنسهم، لينهوا بإرادة الخائفين، والأغبياء، والفاسدين منهم، الحياة كاملة على الكوكب.
باطن الفيلم مليء بالإسقاطات الواضحة. من الواضح أن سياسات ترامب وتداعيات زمن رئاسته وطريقة تعامله مع كارثة وباء كورونا هي إحدى الزوايا النقدية الرئيسية في الفيلم، حيث تُظهر تلك الدراما الكوميدية المرعبة طريقة اصطفاف أغلبية جيدة من البشر خلف الساسة وتداعيهم لتصديقهم وتأييدهم حتى الأدلة المعاكسة تلمع أمامهم بوضوح، حيث يلمع الدليل في الفيلم حرفياً في السماء في الشهر الأخير قبل وقوع الكارثة الوجودية، ليتمكن الناس من رؤية النيزك يحوم في السماء بالعين المجردة. يذهب الفيلم لتناول زوايا أخرى خطرة ورائعة ومؤثرة في آن: كيف يشتري الأغنياء الرأي العام، كيف تسَيِّر وسائل التواصل جموع الناس وتقودهم كقطيع موحد، كيف يستطيع الإعلام تغيير مجرى الانتباه من أكبر الكوارث إلى أتفه الأحداث، كيف يؤثر الاقتصاد والاعتقاد والانتماء السياسي، وأهم شيء موجات التواصل الاجتماعي، على البشر في كافة أنحاء الأرض لتقودهم، أحياناً وبلا تردد أو تساؤل منهم، تجاه الهاوية المحققة.
يشير الفيلم كذلك -وأرجو المعذرة لاستخدام هذا الوصف القطعي الذي أستخدمه هنا بمعناه العلمي، العلم الاجتماعي لا الاتهامي- إلى الغباء المحقق عند جموع البشر لا أفرادهم، وكيف أن المجموعة تتداعى بشكل أسهل أمام الكذبات وتستسلم بشكل أسرع للغباء عند الأفراد المنفصلين، وذلك رغم أن الغباء الجاهل غير مبرر اليوم، خصوصاً في زمن المعلومة المتاحة السهلة. تُذَكِّر مشاهد هياج الناس وتفاعلهم على وسائل التواصل لمساندة رئيسة أمريكا في الفيلم في حملتها «لا تنظروا للأعلى» التي ترمي بها لطمأنة الناس على براءة النيزك واستحالة إصابتهم بسوء، بهياج الناس وتفاعلهم في واقعنا تجاه حملات ما كان يمكن أن يصدق عاقل أن يكون لها صدى، دع عنك تفاعلاً ومساندة. حضرتني مباشرة مثلاً حملات «الأرض المسطحة» التي هاج لها مجموعة من البشر تأييداً لفكرة أن الأرض عبارة عن أسطوانة مسطحة، وأن كرويتها خدعة أمريكية من ناسا، في استعراض لظاهرة الانقياد البشري التي يعززها تكالب الجموع على الفكرة مهما بلغت استحالتها. هناك كذلك الحكاية التي تتكرر كل مئة سنة تقريباً من حياة البشر، بظهور وباء يثير نظرية المؤامرة، ثم لقاحه الذي يعززها رغم كل الإثباتات العلمية، لتأخذ نظرية المؤامرة تلك أغرب ولربما أغبى صورها في زمننا، في إطار شائعات مثل أن اللقاح سيحولنا إلى «زومبيز» أو أنه سيتسبب في إحداث ظاهرة تعجيل نمو المواليد، رغم أن اللقاح لم يأخذ بعد زمنه الكافي في أجساد الآباء والأمهات الذين سيأتون بمواليد جديدة للدنيا وليكبروا ولتظهر عليهم أعراض الشائعة الغريبة الغبية تلك.
ومما حضرني كذلك قصة رواها الدكتور ريتشارد دوكينز، في أكثر من مقابلة له لصديقه عالم الجيولوجيا المخضرم الذي كان يقر ويجزم أن عمر الأرض هو ستة آلاف سنة. في حواراته مع دوكينز، يسأله الأخير بما معناه، أن كيف يمكنك أن تقر وبمعلومة فادحة الخطأ العلمي وأنت عالم عظيم في مجالك وتعلم حق العلم أن عمر الأرض يفوق الأربعة بليون سنة؟ فيجيبه العالم الجيولوجي المتشدد في مسيحيّته، بما معناه، أن لو كل الدنيا بكل مؤشراتها وكل دلائلها العلمية تقول بشيء والإنجيل يقول بعكسه، فسيؤمن هو بالإنجيل وبمعلوماته، ويكذّب كل الحقائق والأدلة التي يلمسها بيديه ويشاهدها بعينيه.
حضرني كذلك حوار آخر لدوكينز مع سيدة غريبة الأطوار ومرعبة التعابير والصوت، تُدعى ويندي رايت، التي كانت رئيسة المجموعة المحافظة Concerned Women of America (نساء أمريكا القلقات) ذوي الموقف العدائي من نظرية التطور. في لقائها مع الدكتور دوكينز (مرفق في آخر المقال) ترسم رايت ضحكة بلاستيكية مخيفة على وجهها طوال الوقت وهي تهاجم الدكتور ببرود وضحكات وابتسامات مريبة. في سياق الحوار، يخبرها دوكينز أن العلماء يختلفون فيما بينهم في دقائق النظرية، وأن هناك الكثير من الجدالات حول التفاصيل، إلا أن موضوع تطور الكائنات هو موضوع منته في الساحة العلمية، وهي نظرية لا جدال فيها اليوم. تبرق عينا السيدة بغرابة وتصر: لكن أين الأدلة؟ فيجيبها دوكينز: اذهبي إلى متحف العلم الطبيعي وستجدين الأدلة أمام عينيك. ثم تعود لتسأله بعصابية: لكن أين الأدلة؟ فيعود هو ليكرر الجملة ذاتها. أصرت السيدة على أنها تريد دليلاً على التطور من جنس لآخر وليس فقط في ذات الجنس، فأخبرها دوكينز أن الدليل موجود في تحاليل الـ»دي إن إيه» التي تشير إلى هرمية رائعة وتراتبية عظيمة بتباينها الطفيف بين تركيبة الـ»دي إن إيه» التي للبشر عن تلك التي للشامبانزي، ثم أبعد بمسافة عن تلك التي للقرد، ثم للسحلية، إلى آخره. مما يؤكد أن الكائنات كلها تنتظم في «شجرة عائلة» واحدة. تعود السيدة رايت لتسأل: لكن أين الأدلة؟ فتدور الكاميرا على وجه دوكينز، الذي يهزمه ذهوله التام رغم كل محاولاته لضبط نفسه.
ذكرتني مشاهد الفيلم والعلماء يصرخون في الناس «فقط انظروا للأعلى» بوجه دوكينز وهو يقول للسيدة المخيفة: فقط اذهبي للمتحف. إلا أنه رغم سطوع النيزك في سماء الفيلم، ورغم وجود بقايا وأحافير وتحليلات «دي إن إيه» بل وهياكل عظمية مكتملة الأجزاء تقريباً لأجناس بشرية مختلفة في متاحفنا، بقي كثيرون في الفيلم يكذبون وجود النيزك، مثلما يبقى كثيرون في واقعنا يكذبون نظرية التطور. غريبة هذه السمة البشرية التي تدفع بنا لتكذيب ما نراه بأم أعيننا؛ لحاقاً بركب الجماعة أو إصراراً على التمسك بمعتقد أو مقاومة لتغيير مستحق، والأغرب منها هي سمة الكذب الفاحش التي يتبناها البعض بأريحية وصفاقة، مع معرفتهم التامة بتداعياتها الكارثية الهائلة. في الفيلم، لم تلتفت رئيسة الولايات المتحدة للكارثة إلا حين وجدت لها استفادة في حملتها الانتخابية القادمة، ثم عطلت الحلول المرة تلو الأخرى بسبب الجشع الفاحش الذي من أجله غامرت هي وبعض كبار الساسة والتجار بالحياة البشرية بأكملها على سطح الكوكب. وحين فشلت كل المحاولات، هربت هي والأثرياء ليتركوا الأرض مقبرة ضخمة لكل من صدقهم بغباء وتبعهم بجهل وساندهم بحماقة ورفض أن ينظر للدليل بارقاً أمام عينيه، رفض أن ينظر للأعلى.
رابط الحوار المذكور في المقال: