لا تحتاج ديناً لترى فلسطين

في نطاق تقديمها لكثير من الدروس الإنسانية والأخلاقية، قدمت غزة درساً مهماً وخطيراً حول التطرف الديني واستشكالية خلط الدين بالممارسة السياسية، وذلك حين تبين للعالم أجمع أن التضحيات التي يدفعها أهل غزة مقدمة من أصحاب مختلف الأديان ومختلف التوجهات، وقد تعزز ذلك تحديداً حين ضُربت الكنائس الغزاوية وتعرض مسيحيو غزة لمجازر لا تقل وحشية وترويعاً عما تعرض له مسلموها، ودفعوا الثمن غالياً، تماماً كما دفعه المسلمون، ذلك أن القنابل الصهيونية لم تفرق بين مسلم ومسيحي، بين عربي وأجنبي، بل حتى بين فلسطيني و»إسرائيلي» أسير في غزة. كل موجود على أرض غزة تعرض للوحشية الصهيونية، وهي وحشية، في مفارقة عجيبة، بنيت على أساس تمييزي ديني وعلى قصة ثيولوجية اختلقها الصهاينة ولفظها اليهود المتدينون، قصة ظاهرها انصياع لأمر الرب وباطنها ضرب لكل أمر ديني أو قيمة أخلاقية أو حتى وازع إنساني فطري.
من المبشر ببعض الخير أن خطاب الاصطفاف الديني لم يعد مستساغاً كما في السابق عند الحديث عن القضية الفلسطينية، حتى إن الخطاب الحمساوي تغير بعض الشيء تجاه «الآخر»، كما أن الهتافات «الخافتة» العربية والخطاب الدفاعي العربي الإعلامي لم يعد يستند كثيراً إلى موضوع الدين كموحد للجبهة الدفاعية وكوازع للوقوف مع غزة. لقد وحدت غزة الخطاب حول العالم في نطاق إنساني، ومن خلال الصورة والفيديو وكل الدلائل المرئية والمسموعة، حمّلت غزة كل بشر على سطح هذه الأرض مسؤولية إيقاف المجزرة الحالية، مسؤولية حماية الطفل أينما كان، مسؤولية المحافظة على القواعد العامة الأخلاقية في الحرب (رغم تناقض كلمتي أخلاق وحرب)، مسؤولية حماية المدنيين وإيقاف الصراع الذي تدخل فيه الكيانات الكبرى من خلال ترويع هؤلاء المدنيين، وتجويعهم، وتشريدهم، ومنع الرعاية الطبية عنهم، واستخدامهم وهم نازحون في خيامهم، كوسيلة معاقبة وضغط من خلال القصف الوحشي المروع.
وفي الوقت ذاته، الذي أفاق إبانه العالم كله من غيبوبته السياسية لتتضح له دناءة الكيان الصهيوني و«حقيقة زيفه»، أفاق العالم العربي الإسلامي بنسبة جيدة في تصوري من معتقد الانتصار الديني لتتسع له الرؤية ولتكبر لديه مجالات النضال من ذلك الإسلامي فقط إلى ذلك الإنساني، لتصبح الهتافات ليست فلسطين إسلامية ولكن فلسطين عربية، ولتترسخ فكرة أن فلسطين منطقة ذات شعب قديم مختلط الأديان متعدد الأعراق، لا يقتصر تعريفه على إسلاميته، ولا تنحصر مسؤولية تحريره بالمسلمين فقط، صراعه ليس صراع إسلام ضد يهودية، بل صراع إسلام، يهودية، مسيحية، تاوية، بوذية، هندوسية، كنفوشية، وكل دين على سطح الأرض وصولاً إلى اللادينية ضد صهيونية تتخذ من الدين ستاراً، ضد الاحتلال العسكري الغاشم، ضد حرب إبادة شعب وسرقة أرض واستغلال موارد وتزوير تاريخ وغسل أدمغة. هو حرب الإنسانية ضد الوحشية العسكرية والقتل البدائي من أجل إبادة الشعب الأصلي وسرقة أرضه وموارده، أقدم قصة بشرية وحشية عنيفة عرفها التاريخ.
اليوم يحتاج الخطاب العربي الإسلامي أن يتغير جذرياً، فلو أن مئات السنوات من التراجع المجتمعي والتخبط العلمي والفوضى السياسية والقانونية الناتجة عن إعلاء صوت القراءة الدينية وخلطها بكل جوانب الحياة الدنيوية لم تكن دافعاً كافياً لمراجعة وتغيير وتشذيب هذا الخطاب، فغزة وحدها، بمعاناتها، بتضحيات أهلها، بواقع حالها المختلط والمترابط دينياً، وبواقع الوقفة الإنسانية العالمية المبتعدة عن القراءات الدينية والمعتمدة على القيمة الإنسانية والوازع الفطري، تكفي لدفعنا لمراجعة وتغيير الخطاب جذرياً وفورياً. لقد أَشبع الصف المحافظ ليبراليي وتحرريي العالم العربي شماتة وهم يمسحون على وجوههم بصور النفاق الغربي السياسي وبالمواقف المخزية لحكومات الدول «المتقدمة الإنسانية». وكوني أنتمي للصف اليساري الليبرالي الاجتماعي، أود أن أذكر «الشمّاتة» كذلك بتباين مواقف الشعوب الغربية المجبولة حقيقة على الحرية ومواقف شعوبنا المجبولة على الحلال والحرام والسكوت والطاعة. لذا، بشماتة من الطرفين أو دونها، تبقى حقيقة أن العذاب والمعاناة لا يفرّقان على أساس الدين داخل غزة والضفة، وأن المساندة والتأييد للحق الإنساني والتاريخي الفلسطيني لا يقومان على أساس الدين في العالم كله. أنت لا تحتاج ديناً لترى من خلاله فلسطين، أنت تحتاج عينيك وأذنيك البشريتين ووعيك وضميرك الإنسانيين، فقط لا غير.