حين كتبت مسبقاً أربط حرمان المرأة من تمرير جنسيتها لأبنائها في بعض الدول العربية ببعض القراءات الدينية الإسلامية السائدة (هناك كذلك دول غير عربية وغير إسلامية تطبق ذات التمييز الجندري حيث تبقى ما يقترب من ثلاث وعشرون دولة في العالم تمنع المرأة من تمرير جنسيتها لأبنائها) ، تداعى العديدون للدفاع عن الدين مؤكدين على أهمية كيان المرأة في قراءاته وإلى استكمال حقوقها تماماً تحت مظلته، حيث دوماً ما يتردد هذا الكلام الإنشائي حول القراءات الدينية السائدة لأوضاع المرأة دون أدنى تفنيد أو مواجهة حقيقية مع ظروف المرأة المسلمة وتداعيات التشريع الديني التراثي على حياتها المعاصرة الحديثة.
تتردد دوماً جٌمل مثل “الإسلام كرم المرأة” و”الإسلام أعطى كامل الحقوق للمرأة” ضغطاً على لفظة “الإسلام” عوضاً عن تعبير “القراءات والتفسيرات الدينية” وذلك كتماً للصوت المعارض المختلف. فمن سيجرؤ ليقول أن المرأة غير مكتملة الحقوق في الإسلام؟
إلا أن الأسئلة الحقيقية المستحقة هي كالتالي: هل تشير الظروف الحياتية للمرأة المسلمة إلى استكمال حقوقها واستتباب أمن حياتها وحرية اختياراتها؟ وهل هناك إسلام واحد وتفسيرات وقراءات دينية موحدة ذات نتائج إنسانية عظيمة ناجحة ليعتمدها المحاججون في مواجهة معارضيهم؟
إن الادعاء الهلامي الاستعلائي باستكمال حقوق المرأة إسلامياً هكذا ببساطة وعلى الرغم من كل المعاناة التي تصل حد فقدان الحياة بالنسبة للنساء المسلمات ما هو سوى تكميم ذكوري تخويفي لكل رأي مختلف وتجاهل لأي احتجاج للمرأة تجاه ظروفها الحياتية التي تحياها وبكل جوانبها في إطار ذكوري تام.
قبل فترة ظهر فيديو لسيدة عراقية تواجه شيخ دين باكية بحرقة تزويج طفلتها بعقد عرفي إثر اغتصابها، وهي تناشد الجميع مساعدتها خوف موت ربنتها تحت متطلبات هذا الزواج، ليصل بها بكاؤها لرفض الإيمان بكل شيئ وإعلانها فقدان ثقتها بكل شيء، سائلة الشيخ عمن ساعد الأب على انتهاك حق طفلته، قائلة “من ساعد الأب؟ رجل الدين.”
لا نعرف ما حاق بهذه الأم المقهورة وقد أعلنت فقدان ثقتها بكل المنظومات حولها، متهمة رجال الدين بشكل مباشر وفي وجوههم بالمشاركة في الجرائم ضد القاصرات، إلا أن ما نعرفه تماماً هو أنها تمثل صوت أنين انفجر تحت ضغط أمومتها المسحوقة بآلام ابنتها في مقابل ملايين الأصوات النسائية التي لا تزال مكبوتة في “قماقم” رعب لا منفذ خارجها. في عارض رد الشيخ على هذه الأم المكلومة ذكَّر تحديداً بإعلانها أنها لم تعد تعترف بالإسلام، ليسأله مقدم البرنامج، “لماذا أخذت من كل كلامها هذه الجملة؟”
لا يخفى بالطبع الهدف اللئيم لإشارة الشيخ ليأس الأم المكلومة من دينها، فإشارة كهذه هي الوحيدة القادرة على إخراج رجل الدين هذا وأشباهه منتصرين وبأقل الجهود. كل المطلوب هو التلميح بالخروج عن الدين، لتقع اللعنة ولتكون النهاية.
الحقيقة أنه بعيداً عن الشريعة كحالة مقدسة، فإن القراءات الدينية في واقعها غير عادلة والتفسيرات التشريعية غير محايدة، حيث يأخذ معظمها جانب الرجل بشكل واضح فج لا يحتمل فعلياً المجادلة، ومن يحاول تغطية ذلك بجمل عامة هلامية، هو لا ينحى عن أن يستخدم ذات الجمل التقليدية، التهديدية في عمقها، لإسكات الصوت الآخر وإنهاء الحوار.
تحتمل الشريعة الإسلامية الكثير من التطوير وتتطلب، كما كل فلسفة دينية وفكرية أخرى، إعادة القراءة والفهم والتكييف المستمرين، وإلا كيف ستتسق الحياة بكل متغيراتها مع قراءات ثابتة لزمن غير زمننا ومحيط غير محيطاتنا المختلفة؟ لقد كان للكثير من المفكرين التنويريين، أمثال فاطمة المرنيسي ونصر حامد أبو بزيد وجورج طرابيشي وسعيد ناشيد ومحمد الجابري وغيرهم الكثيرون، قراءات متجددة وفهم متألق لمفاهيم الحقوق والعدالة والمساواة في المشروع الإسلامي الفلسفي والسياسي، إلا أنهم وأعمالهم بقوا إلى حد كبير في مساحة المحظورات، وكأنهم فلاسفة “تحت الأرض” لا مكان لفكرهم التنويري، ويا لغرابة المفارقة، تحت الشمس العربية الإسلامية.
المرأة التي لا تزال موصى ومولى عليها من قِبل ذكر ما في أسرتها، المرأة التي لا تستطيع تزويج أو تطليق نفسها، المرأة التي تفقد حضانتها لأبنائها فور زواجها اللاحق، المرأة التي لا ترث كما أخيها، المرأة التي تعاد إلى عصمة زوجها قسراً، المرأة التي لا تمرر اسمها لأبناءها وبالتالي لا تمرر بقية الاستحقاقات المدنية الممتدة منها كمواطنة مدنية، المرأة التي يُفرض عليها بموافقة، وأحياناً مباركة، الكثير من القراءات الإسلامية مشاركتها لزوجها مع ثلاث نساء أخريات أو أكثر من خلال أنواع “الزواجات” الأخرى، المرأة الملزمة بالطاعة، المُعاقَبة بالضرب والهجر، المفروض عليها عشرة زوجها ولو كرهت “لأن الملائكة ستلعنها” إن رفضت، المرأة المغتالة طفولتها بزواجها كقاصرة، المرأة المغتال جسدها بختانها، المرأة التي ينظر لها على أنها ناقصة بسبب ظروفها الجسدية والصحية، كل هؤلاء النساء، وأكثر، ينتظرن إنصاف القراءات الدينية والتفاسير الحديثة، ينتظرن انتقالهن، لحاقاً بذكور مجتمعاتهن، من القرن السابع إلى القرن الواحد والعشرين.
ولو أن التشريع المدني لم يكن ليتأثر بالتشريعات الدينية إلى هذا الحد الصارخ، ولو أن دولنا كانت مكتملة العلمانية والمدنية فاصلة الحيز الديني عن الحيز السياسي التشريعي، لما ألحت الحاجة الفورية والجذرية بالتطوير القراءاتي الديني، إلا أننا مجتمعات لازلنا نشرع بمنحى ديني تام أحياناً، كما في قوانين الأحوال الشخصية، أو نخلط التشريعات المدنية بالدينية بما يخلق حالة انفصالية غريبة، كما في قوانين الجنسية وقوانين “الشرف” وقوانين الوصاية المتأثرة جداً بالروح الذكورية الدينية، إلى آخرها من القوانين الدينية أو المدنية أو المختلطة والمؤثرة بشكل مستمر في الحياة اليومية للمرأة العربية المسلمة.
لا تمرر المرأة جنسيتها لأبنائها لأن الأبناء يتبعون الأب، ومن أين أتت وتثبتت هذه الفكرة؟ ما هو أساس فكرة الوصاية في المنظومة القانونية السائدة في معظم مجتماعتنا اليوم؟ لا بد لنا أن نواجه الحقيقة حتى نستطيع أن نعالج المشكلة، أما المعالجة الكليشيهية المتكررة التي تستهدف التخويف فعلياً لا الحوار أو الحل، فلن يستمر تأثيرها كثيراً. سيخاف الناس إلى حين، ثم ينتهي مفعول الخوف ويحدث الانفجار.