ترى أي أثر لعملية الإبادة الجماعية سيبقى في نفوس أطفال فلسطين، غزة تحديداً؟ أي معاناة نفسية وأمراض جسدية وعصبية عنيفة ستصيب الجيلين أو الثلاثة المعاصرين للنكبة الجديدة بكل عنفها ودمويتها؟ كلما ظهرت صورة لصغير متداعي الأطراف يتم انتشاله من تحت الأنقاض فيشهق بنفس يدل على الحياة، يحضرني مباشرة السؤال، ليس عن والديه ما إذا كانا موجودين أو عن مكان إقامته المستقبلي أو عن مصيره في الأيام القادمة، كل ما يحضرني هو هذا الرعب الداخلي الذي يعيش، هذا الظلام في خلايا مخه الصغير، الذي لم يكتمل نموه بعد، الذي يرى الآن. كيف سيكبر هذا الصغير؟ مع أي غضب سيتعايش؟ بصحبة أي رعب ستتشكل سنواته، وأي نوعية من الحياة ستكون حياته؟
ثلاثة رضع على سرير المستشفى، اثنان يقطع الأطباء ملابسهما ويجريان لهما الفحوصات اللازمة، وثالث يحاول طبيب آخر إسعافه وإعادة النبض إلى قلبه. لا يتجاوب الطفل، يقف الطبيب برهة مشيراً إليه، يقول له أحدهم: «حاول معاه، حاول معاه» يعود الطبيب للمحاولة، يفتح العينين الصغيرتين، لا استجابة. يعلّق أحدهم: «أعطونا إياه نلفه ونبعده». الصغير ساكن هادئ «نائم» كأن شيئاً لا يعنيه. طفل تحول لونه لبياض ذرات الجبس الذي يغطيه من رأسه إلى أخمص قدميه، يجلس ممسكاً بجذع شجرة هو كل ما بقي من المشهد السيريالي الغريب، يرتجف جسده الصغير بشدة وانتظام، وكأنه علق بأكمله في سلك كهربائي حام. عدة مشاهد لعدة أطفال ناجين ينتفضون بشدة وانتظام مخيف كأنهم فعلياً مرتبطون بجهاز هزاز، بنطالاتهم وفساتينهن مبللة بالأسفل، كلماتهم لا تخرج من أفواههم المرتجفة. سيدة تصرخ بين الناس «الأولاد ماتوا دون ما ياكلوا» وأخرى تزغرد على جثتي ولديها. هذه المشاهد اللامعقولة واللامنطقية والسيريالية هي الحقيقة المرئية الوحيدة لأطفال غزة وفلسطين عموماً، وكأنهم يحيون كامل حياتهم في بعد غرائبي مختلف تماماً من الحياة.
تعتبر السعادة، في عرف القرن الحادي والعشرين، واحداً من أساسيات حقوق الإنسان، بل إن اللعب والترفيه والضحك هي حقوق للطفل تنص عليها كل المعاهدات الحديثة بصيغة أو بأخرى، هل يستوعب العالم المسافة ضوئية السنوات بين أطفال غزة وهذه الحقوق المحبرة على الورق؟ لربما من «الآمن» القول الآن إن أراضي غزة تضم اليوم أكبر مقابر أطفال جماعية في العالم بأكمله، إن لم تكن الأولى من نوعها. بعد كل هذا الجنون واللامنطقية والضياع التام لكل شكل واضح وثابت من أشكال الطبيعي والمنطقي والممكن والمقبول والمعقول، ماذا بقي لنا أن نقول؟
أتصور أن الباقي هو منطق وكلمات باسم يوسف، تلك التي كانت المعبر الأفضل عن التيه والجنون والضياع «الدادائيين» الذين نعاصر، تلك التي عبرت عن «كل شيء ولا شيء» بحسب المدرسة الدادائية التي يبدو أننا نعيش عبثيتها اليوم. لم يعد باق لنا اليوم سوى «أحا» باسم يوسف، التي تتعذر ترجمتها بكل حمولتها الثقافية وبكل معانيها الساخرة القبيحة، لم يعد ممكناً اليوم سوى أن «نسخر من هؤلاء الغزاويين الذين لا يريدون أن يموتوا رغم كل المحاولات» تماماً مثلما حاول باسم يوسف «قتل زوجته» وتماماً مثلما بقيت هي على قيد الحياة رغم محاولاته.
لا أتصور أن مقابلة عبرت عن العبثية والجنون واللامنطقية مثل تلك التي قدمها باسم يوسف؛ ففي سخريته تشكل كل الألم، وفي عبثية ردوده تمثل كل المستحيل الذي لم يكن العالم ليتخيله والذي رغم كل ذلك يتحقق اليوم على مرأى من العالم ومسمع. وفي لحظات التحول القليلة التي اتخذها باسم نحو الجدية، طرح سؤالين لا يزالان معلقين على حبال الخذلان: إذا كانت حماس هي السبب، فلماذا يتم قصف الضفة الغربية؟ وإذا كان الهدف هو الحد من الإرهاب، فلماذا تسوية غزة بالأرض؟ هل نجح هذا العنف فيما سبق في تحقيق أهداف إسرائيل «النبيلة»؟
لكن إجابة لم ترد، لتلتف هذه الأسئلة وتدور في عيني باسم يوسف وفي ضحكته المحروقة وفي غضبه المكتوم بكلماته المتسارعة كأنها تخرج من رشاش ماء. لم يجد باسم إجابة، ومعه لم نجد منفذاً من بين كل الأسئلة لنفهم شيئاً، لنعي هدفاً، لنرسم ولو كذباً أي معنى لكل هذا الموت ساكن في أجساد الأطفال. انتهت المقابلة وقد دارت كلماتها الغرائبية في رؤوسنا مختلطة بالأشلاء والدماء والصرخات والبكاءات ودوي الانفجارات وعويل سيارات الإسعاف والبيانات والاستنكارات والتصريحات، لتتشكل لوحة سيريالية عظيمة للقرن الحادي والعشرين، فُرَشُها أصابع الأطفال، وأصباغها دماؤهم، ورقعتها جلودهم. ننظر كلنا في اللوحة فننعى الحيوات المفقودة، في حين أن علينا أن نبكي الحيوات الباقية، على أي شكل ستكون؟ كيف سيعيشها هؤلاء الأطفال الذين سيبقون مدى حياتهم محبوسين في ذكرى الحديد والإسمنت المنفجرين فوق رؤوسهم؟
أي مستقبل إنساني طبيعي ينتظرنا جميعاً بعد أن رأينا ما رأينا وسمعنا ما سمعنا؟ كيف سنحيا ونكون بشراً طبيعيين وكل ذلك مصاحب لنا في الذاكرة؟