تبدو الرؤوس الصغيرة الثلاثة مطلة بين الأنقاض، مغمضة العينين، دامية الأفواه. بين الرأس الصغير والآخر هناك كف يد صغيرة ممدودة، كأنها كانت تتقصد شيئاً ما. ترى هل كان هؤلاء الصغار يركضون باتجاه باب بيتهم؟ ترى هل كانت الكفوف الصغيرة تستهدف مقبض الباب للخروج من البيت، الخروج من النار إلى النار؟ يُظهر الفيديو مشهداً مروعاً لفريق إنقاذ رفح وهو يرفع الأنقاض عن الرؤوس والأيادي الصغيرة، فيما الصغار أصحاب هذه الأيادي والرؤوس مستلقون هناك في سكينة، لقد انتهت الحرب بالنسبة لهم، لقد توقف القصف وسكنت الدنيا إلى الأبد.
اشتعلت النار في رفح، ووصل جيش المحتل القذر إلى الحدود المصرية، وارتقى الصغار بأعداد مرعبة وفي غضون ساعات قليلة، وتشرد أهل رفح بشكل عشوائي مخيف منذر بكارثة أخرى إنسانية وبيئية وصحية واجتماعية وأخلاقية مروعة، لا ندري كيف ستقوم البشرية منها أو كيف ستنتعش الإنسانية بأخلاقياتها ومبادئها ومفاهيمها من بعدها، وفيما العالم كله بقيادة شاباته وشبابه يثور ويصرخ ويعتصم، وفيما الحكومات الموالية للاحتلال والراضخة لرخص مصالحها في وجوده تعتقل هؤلاء الشابات والشباب وتنكل بهم، وفيما جامعاتهم تتعسف في معاملتهم وتفصلهم من مواقعهم الدراسية وتهدد مستقبلهم، وفيما العرب المجاورون، الثابت منهم يشجب ويستنكر، والمائع منهم يحلل ويبرر، والبائع منهم يطبِّع ويطبع القبلات على جبين المحتل الحقير، فيما كل المتضادات هذه تحدث بغرابتها… إسرائيل الصهيونية مستمرة في مجازرها التي لم تر البشرية مثيلها منذ زمن ما بعد الحداثة. لم يتوقف الصهاينة للحظة، لم يوقفهم الحراك العالمي، لم تعرقلهم الاعتصامات والاحتجاجات، لم تخجلهم حتى أحكام المحكمة الدولية. ترى، ما الذي يسند ظهورهم لهذا الحد؟ ما الذي يدور أسفل الطاولة ويجعلهم آمنين على جرائمهم لهذه الدرجة؟
أما أنت فأسألك، كيف تمشي في مكان عام حاملاً كوب ستاربكس أو كيس ماكدونالدز أو حقيبة كريستيان ديور وأنت ترى ما ترى من صور وفيديوهات قادمة من غزة، وهذه الأيام تحديداً رفح؟ كيف تشرب الدماء وتقضم الأشلاء وتلبس جلود الأبرياء هكذا بدم بارد، بلا أن يهتز لك جفن، بلا أن تتحرك مشاعرك الغريزية الإنسانية؟ إن هذه الوحشية المستمرة اليوم في غزة، والمتسللة اليوم بكل عنفها وفظاعتها إلى منطقة رفح إنما هي بمثابة بصقة يبصقها الصهاينة في وجه كل احتجاجات العالم الشعبية وعلى كل مظهر من مظاهر النهضة الحقوقية العادلة المتمثلة في حراك الطلبة في الجامعات، وخروج الشعوب في مظاهرات حاشدة، وتشكيل ونشر المواد المرئية والمسموعة حول غزة والقضية الفلسطينية سواء من خلال الندوات أو الخطابات أو الأعمال الفنية والأدبية. لم يحدث أن وقف العالم على قدم وساق من أجل قضية منفردة بهذا القدر والشكل سابقاً، رفضاً واحتجاجاً وصراخاً بالمطالبة بوقف الممارسات الوحشية، ولم يسبق أن تجاهل عدو للإنسانية وللأخلاق والمبادئ والقيم وقفة العالم الاحتجاجية بكل تبجح وصفاقة، ولم يسبق أن ساندت الحكومات المدنية، في العصر الحديث، هكذا بتبجح وصفاقة بمثيلتيهما، دون احتساب قيمة وأثر حراك الشعوب ودون الأخذ بعين الاعتبار سمعتهم العالمية كحكومات كبرى. فأي خبث تخبئه العصابة العالمية تحت غطاء تأييدها «لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؟».
مع تعالي قوة روما في سنة 250 قبل الميلاد، طغت هذه المدينة واستبدت وتبجحت تجاه جاراتها، وأصبحت سمعتها الوحشية تسبقها حيث تتجه لغزو جاراتها والاعتداء على أراضيهم وأهاليهم. بل يقال إنه ما إن كان الجيش الروماني يقترب من مدينة ما، حتى يسارع حاكم المدينة لتسليم مفاتيحها تجنيباً للمدينة وأهلها هذه الوحشية ذات الصيت الشائع المرعب. ومع ذلك، ورغم استسلام المدينة المنكوبة الكامل للجيش الروماني، كان الجيش يدخل تلك المدن المستسلمة، فيعيث فيها فساداً، ويقتل أهلها كلهم ثم يحرقها عن بكرة أبيها. أين روما هذه الآن؟ أين قواها وجيشها وسمعتها؟ إنه قانون الحياة، مهما بلغ استبدادك ستقع، والوقوع في عالم اليوم «المتحضر»، لو وصفناه هكذا مجازاً، سيكون له رنين مختلف. لقد غفر التاريخ لروما كما غفر لغيرها الاستبداد المرعب الذي كان، ذلك أن البشر لم يكونوا واعين لخيارات أخرى، وبعد لم تتطور منظومتهم الحقوقية الإنسانية. أما اليوم، فالتاريخ الذي بدأت البشرية كلها بكتابته، مرئياً مسموعاً منقوشاً منحوتاً مرسوماً حول جرائم الصهيونية في فلسطين، لن يغفر أبداً لهذا الكيان الذي سيباد ذات يوم، لتذهب إسرائيل بصهيونيتها إلى أعتى مزابل التاريخ.
لا نستطيع الكثير، أدرك ذلك، كل جهودنا ومحاولاتنا لن تعيد الحياة لتلك الرؤوس الثلاثة الصغيرة بشعورها الكثيفة المغطاة بالتراب، بكفوفها المنمنمة الممدودة بحثاً عن رحمة ما كانت لتكون أبداً ضمن منظومة أخلاق أي كيان استعماري. سيبقى هؤلاء الأطفال الثلاثة ميتين، سيصعدون شهداء رفقة آلاف الأطفال الآخرين الذين فقدناهم إبان المئتين ونيف من الأيام مضين. لن نحيي العظام، فسبحان من يحييها وهي رميم، لكن لربما نستطيع أن نحيي الضمائر، لربما نستطيع أن نبقي القلوب نابضة ولو ببطء والضمائر فاعلة ولو على استحياء. قاطعوا، استغنوا، لا تشربوا الدماء وتأكلوا الأشلاء وتلبسوا عذابات أهلكم وصنوانكم في البشرية. تكلموا وانشروا واغضبوا وثوروا، ليس فقط من أجل غزة أو فلسطين أو السودان أو اليمن أو العراق أو ليبيا أو كل وأي مجتمع إنساني مقهور معذب، وإنما كذلك وبالدرجة الأولى من أجل أنفسكم، حتى لا تغيبوا عن الحس الإنساني، فيحولكم المشهد إلى بشر آليين، غير قادرين على استشعار عذاب يفترض أنكم جينياً تشعرون به ومتواصلون معه. دعونا نحرص على ألا نفقد ما بقي لنا من كرامة، فتلك تذوب إذا ذاب التعاطف وغاب الضمير.
وأخيراً، بعد أن وافقت «حماس» على شروط وقف إطلاق النار، الكرة الآن في «مستنقع» الصهاينة. ترى، أي تبرير سيقدمون لاستمرار جريمة الإبادة التي يمارسونها، وتحت أي غطاء رخيص ستوافقهم حكومات العالم؟