كن شجاعاً

يدور الحوار ساخناً هذه الفترة حول مواضيع التعددية الجندرية، حيث تلتهب الفوبيا العربية شاحذة كل سيوفها لمحاربة ليس فقط المفهوم ولكن كذلك أي أسلوب للتعامل معه يخرج عن نطاق العنف اللفظي والسب واللعن والكراهية الواضحة الموجهة الناقمة. حين التعامل مع هذه القضية، ليس هناك فهم علمي أو بحث تاريخي أو استيعاب سيكولوجي أو حتى تضاد أو رفض فكريين هادئين، هناك فقط، عند العرب والمسلمين، الحرب الشعواء التي، لفظياً وجسدياً، يفترض ألا تبقي ولا تذر.
هناك أسباب عدة لردود الفعل العنيفة، منها الموقف الديني الصارم تجاه الموضوع والمخاوف الرهابية تجاه المختلف عموماً والمفاهيم التقاليدية عميقة الرسوخ والتي أقواها مفهوم الذكورة الشوفينية التي تعد الأكثر سيطرة في عالمنا العربي الإسلامي المغرق في أبويته. كذلك، جزء كبير من رد الفعل العنيف هذا موعز للحملة الغربية المزايدة على نفسها وقضيتها في إعلاء موضوع الحرية الجندرية، حتى أصبح العالم يشعر أن هذه القضية أصبحت فرضاً يومياً عليهم، أضحت هي المعادلة الحقوقية الأولى التي من أجل موازنتها يخل الغرب اليوم بكثير من المعادلات الأخرى، ويذهب في تحقيق هذه الموازنة كل مذهب يمكن أن يخل بحقوق الآخرين وخصوصية مفاهيمهم وطرائق تعاملهم مع المختلف عنهم.
لكن أن يذهب رد الفعل العربي المقابل للموقف الغربي إلى هذه الدرجة من الحقد والكره والتحريض على العنف، فهذا ما يشكل نوعية «متطورة» من الغضب والعدائية في مجتمعاتنا. تنتشر حملة إعلانية هذه الأيام في الكويت لها طابع تحريضي سافر ضد المثليين، وهي حملة معلقة لوحاتها الإعلانية، بغيضة الكلمات، بشعة الألوان، في شوارع الكويت التي ما كان يفترض أن تتحول لساحة حرب ضد فئة تعيش على أرضها مهما بلغ النفور المجتمعي منها أو التحريم الديني لفكرها. إلا أن المثير للانتباه أنه في عارض دفاع المدافعين عن هذه الحملة، بل في طريق محاربة فكرة التعدد الجندري بشكل عام في العالم العربي، كثيراً ما يسوق «المحاربون» حجج اليمين الغربي المتطرف في الواقع دون وعي منهم، رابطين المواضيع المنافية للأخلاق بموضوع التعدد الجندري في عارض إحراج أصحاب الرأي الآخر ووصمهم بأبشع التهم. المحزن ألا يبدو أن لهذا الأسلوب الرخيص في فرض الرأي وإقصاء الآخر نهاية بينة في ساحاتنا الحوارية العربية الدموية التي لا تنتهي حروبها المشتعلة باستمرار بفكرة امتلاك الحق المطلق والحقيقة الأخيرة.
حين انتقد البعض، وأنا منهم، هذه اللوحات الإعلانية التحريضية، رخيصة الفحوى، مبتذلة الشكل، تصدى حماة الفضيلة للنقد بأن تركوا جانباً كارثة نشر هكذا إعلانات كارهة في الشوارع، هاربين من التعامل مع سوقية الترويج وتحريضية الفحوى اللتين كانتا هما محور النقد، صابين جام غضبهم على المعنيين في الإعلانات والذين هم غير قادرين على رد الرأي بالرأي، أو على دفع الأذى بأي شكل علني. وكما يحدث مؤخراً حين يكون موضوع التعددية الجندرية محل حوار في العالم العربي، يتم ربط البيدوفيليا وعلاقات المحارم به، واللذان هما ويا للمفارقة، ربطان من صنع اليمين الغربي المتطرف، وكأن فهم التعددية الجندرية يتطلب فهم وقبول التوجهين الأخيرين، بلا أسباب واضحة لهذا الربط، واللذان يعتبران في العالم الحقوقي المعاصر من أبشع الجرائم الإنسانية، وتحديداً البيدوفيليا على وجه الخصوص.
لا يبدو واضحاً كيف يمكن مقارنة علاقة بين بالغين، أياً كانت نوعيتها أو قبولها من عدمه أو حلالها من حرامها، بعلاقة بين بالغ وطفل، طفل غير قادر على اتخاذ قرارات كبرى مصيرية ولا يفترض به أن يدخل في أي علاقة جسدية من أي نوع أساساً. وإذا كانت البيدوفيليا موضوعاً مؤرقاً عند هؤلاء «المحاربين»، فمن باب أولى أن يحاربوا زواج الصغيرات المشرعن في بعض القراءات الدينية، والذي لا يزال يمارس باتساع في كثير من المناطق العربية والإسلامية، لا أن يربطوا بين مفهوم التوافق والتراضي بين بالغين، مرة أخرى مقبولاً كان أو مرفوضاً، حيث إن هناك الكثير من العلاقات بين الرجل والمرأة المرفوضة كذلك، ومفهوم علاقة بين بالغ وطفل والذي لا يفترض أن يكون في علاقة أصلاً قبل سن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة، والذي لا يمكن أن يُترك لاتخاذ قرارات مصيرية جندرية، جسدية، عقائدية، حياتية، قبل بلوغ سن تؤهل لذلك وتحمي صاحبها بشيء من التجارب والاستعداد العقلي والتأهل الجسدي.
أما علاقات المحارم فهذا موضوع أكثر تعقيداً، حيث إنه رغم النفور المعاصر منه، والمستحق بالطبع نظراً لأخطاره البيولوجية، ذلك أن معظم أخلاقيات البشر تتشكل في الواقع على أساس من فكرة البقاء، فيكون في الأغلب الأعم أخلاقياً؛ ما يساعد على البقاء ويكون غير أخلاقي ما يهدده، إلا أن هناك الكثير من الحضارات السابقة التي كانت لا تمارس فقط، بل وتمتدح وتفضل علاقات المحارم من حيث زواج الرجل بأخته أو قريباته، أو حتى ورثة لزوجات أبيه مثلاً. لقد كان زواج الأخت بأخيها في الأسرة الفرعونية في الحضارة المصرية القديمة متعارفاً عليه، بل ومقبول مفضل، وذلك إلى أن أتت الحضارات التالية لتنفيه نظراً لأضراره العديدة. لكن ذلك لا يعني انتفاء هذه الظاهرة بشكل تام. أولاً، هي لا تزال جزءاً من قصة تشكل الحياة الأولى حين تزوج قابيل وهابيل من أختيهما في الأعم الأشمل من القراءات الدينية، ما يجعل البشرية بأكملها أخوة وأخوات تعيش علاقات أقارب مستمرة. وثانياً، هناك مجتمعات لا تزال تتقبل هذه الممارسة باتساعها، كما ومجتمعات تمارس ما قد يعتبر أنماطاً منها، من بينها في الواقع المجتمعات العربية المحافظة، حيث إن زواج أبناء العمومة مدعم ومستحب جداً، وأحياناً مستوجب عند العائلات العربية المحافظة، في حين أنه يعتبر علاقة محارم عند الغرب مثلاً، مثله مثل زواج الأخ بأخته. إذن، لا تزال لعلاقات المحارم البعيدة والقريبة ذيول في المجتمعات البشرية، عند البعض منهم مقبول وطبيعي، وعند آخرين منفر ومحرم. بكل تأكيد، هي اليوم تعتبر، بالعموم، علاقة مريضة منفرة، إلا أن استمرارها بأنماط مختلفة شأن وارد، مثلها مثل كل العلاقات بين البالغين التي قد تبدو دائماً غريبة ومنفرة، ولا أخلاقية عند بعض المجتمعات، ومقبولة ومستحبة عند غيرهم.
لا يوجد في الواقع أي ربط منطقي أو علمي أو نفسي بين المواضيع الجندرية، والتي هي اليوم محل نقاش وتباحث عالمي لا يفترض أن نكون بمعزل عنه، وبين جرائم استغلال الأطفال أو علاقات المحارم المريضة. استخدام حجج اليمين الغربي المتطرف هو مسعى خائب ومحاولة يائسة بائسة لتخطي الحوار الحقيقي إلى مرحلة إحراج وقمع وكتم الرأي الآخر. «للمحاربين الأخلاقيين» نقول، دعوا عنكم أساليب الحرب الرخيصة التي من خلالها تودون إحراج الآخر بسحب النقاش إلى منطقة مختلفة مغايرة تماماً. ليكن الحوار حقيقياً، بأخلاقيته وعلميته واجتماعيته، دون أي محاولة هبوط بربط فكرة، مهما بلغ الاستياء منها، بجريمة بشعة بقصد الإحراج وإنهاء الحوار. الفكرة القوية الأخلاقية لا تحتاج لأسلوب رخيص.