ربما الحسنة الوحيدة البغيضة للإرهاب هي أنه فتح أبواب حوار موصدة، وعرى تابوهات ملتحفة بالعيب والحرام، وحسنته تلك بغيضة، لا تتأتى في مجتمعاتنا إلا بعد أن ينسكب لها الدم مدرارا، حسنة وقحة عنيفة متعطشة للدماء، إلا أنها وحدها الناجية من حفل المذابح القائم على قدم وساق، ولذا سنأخذها على علاتها.
إن قيام ثورات الربيع العربي، ما زلت أراه ربيعاً “يختال ضاحكاً”* رغم كل الأجواء العاصفة القادمة معه، وما صاحبها من عنف من جانبي الشعوب والحكومات، ثم الصحوة المتجددة للحركات الإسلاموسياسية بكل عنفها ودمويتها، وهذا تسلسل سبق أن رأيناه تاريخياً عند الأمم التي عاشت ثوراتها فيما سبق، هذه الأحداث العنيفة الحمراء جلبت معها أصوات شجاعة، أصبحت تسائل نفسها قبل غيرها وتنتقد توجهها وتراجع طريقها قبل أن تتجه للآخر نقداً وتعنيفاً.
لربما من الأصوات الواضحة في المجال الإعلامي التي ارتفعت بعد أحداث مصر العسكرية العنيفة الأخيرة هو صوت إسلام البحيري الذي تجرأ، على الرغم من تحفظي على أسلوبه وكلماته وإن كانت لا تزال كلها تدخل في جانب حرية الرأي، على مساءلة كتب التراث والتشكيك في شيوخ دين وأئمة ما كان لسابق أن يتحدث فيهم أو عنهم. تلت هذه الأحداث فترة توتر مع إيران اشتد عن سابق عهده، فالتدخلات الإيرانية المستمرة في سورية واليمن والبحرين وغيرها رفعت أصواتا حاولت أن تنظر للقضية من منظور مختلف، فدار حوار عن مدى حقيقة التهديد الإيراني واستخدامه كشماعة لمشاكلنا من جهة، ثم ظهر حديث آخر مواجه للنفس عن مدى حقيقة “التوالف” بين شيعة الخليج وإيران، في تحرك مهم يسعى إلى تبيان البعد التاريخي والاجتماعي والسياسي لإيران عند شيعة الخليج، ولإظهار وهمية منفعة هذا التعلق والتبعية وإن كانت نفسية أو مذهبية المنحى.
فالمفكر الرائع خليل حيدر تناول بصوت واضح وجريء وفي أكثر من مقال علاقة الشيعة بإيران تناولاً ناقداً واضحاً يخاطب البشر من حيث يفهمون، أي من منطلق مصلحتهم الشخصية، ويمسكهم من “يدهم اللي توجعهم” أي اليد الاقتصادية، فكتب مركزاً على أن المصلحة الحقيقية لشيعة الخليج هي في انتمائهم التام لدولهم، وفي مقاومتهم أي محاولة جذب من القوى الإيرانية التي لا تختلف عنهم اجتماعياً فقط بل كذلك سياسياً في تبعيتها لنظام ولاية الفقيه الذي لا يمكن لخليجي، أياً كان انتماؤه العقائدي، أن يسكن تحته.
هذا غير إشارته المصيرية لحقيقة أن أي تدهور في أوضاع إيران لن يمس شيعة الخليج، إلا أن التدهور في أوضاع دول الخليج، والسعودية تحديداً، سيمس كل الخليج وعلى رأسه شيعته، وعلى الرغم من توجهي الشخصي الثوري تجاه كل أنظمتنا السياسية العربية التي لم يكتمل نصاب ديمقراطيتها، بل التي لم تطل حتى على مشارف هذه الديمقراطية، فإن مقالات أستاذ خليل البحثية العميقة أتت لتمس حقيقة مهمة لا يمكن تفاديها أو نكرانها، فمصلحة شيعة الخليج تصب في خانة أنظمتهم أو في خانة الاختيار الشعبي الجمعي، ليس لهم من خيار آخر يمكن لهم أن يتعايشوا معه أو حتى يظهروا تعاطفاً جاداً تجاهه، فلا مصالحهم التجارية ولا تحررهم النسبي السياسي سيمكنانهم من التعايش مع النظام الإيراني، كما يقول أستاذ خليل، أو أي نظام آخر لا تربطهم به سوى عقيدة لا تخلو فحواها من اختلاف كذلك، والوصف هنا لي أنا.
وعلى الرغم من دموية أحداث التفجيرات في السعودية مؤخراً، فإن صوتاً مثل صوت كوثر الأربش أم البطل الذي أنقذ المصلين بالتحامه بالانتحاري هو صوت انتشر وجلجل بياضاً في سواد أحداثنا، صوت أتى يرفض الخروج على القانون والدولة على الرغم من فقدها الحارق الأليم، صوت لا يزال يصر على نقد الداخل الشيعي، صوت لا يزال يصدح بضرورة إعادة القراءة التاريخية والدينية للأحداث حتى تقل حدة التوتر، وحتى يكون هناك فهم أوضح للأحداث، فهم ليس بالضرورة أن يقود إلى تواد وتحاب وتقبل تأمين، ولكن يقود، على الأقل، إلى تفهم للاختلاف وإلى بناء قاعدة ينطلق منها الجميع، قاعدة تقر بأننا محبوسون جميعاً، شئنا أم أبينا، في ذات البقعة الجغرافية، ومحبوسون في ذات القصة التاريخية، ومحبوسون في ذات الاختلاف العقائدي، فإما أن نتثقف ونتفهم وننطلق في طريق للتعايش أو نموت قاتلين ومقتولين.
لا نسعى هنا إلى ردم الهوة، ولكن لملئها بماء عذب، تشرب منه كل الأطراف وتتنقل على موجه لتعبر ضفافها، ولن يتأتى هذا الماء العذب إلا إذا فتح كل طرف قربته فاختبر ماءه، وأقر بملوحته ثم حاول تقطيره ليصل به لأقصى درجات العذوبة، بالعربي الفصيح، كل واحد يطل في كتبه، يعدل قراءته، ويكبر مخه تجاه الأحداث التاريخية، وبس دعونا نعيش بسلام.
* من شعر البحتري