كانت تلك زيارتي الأولى “لموقع الصفر”، وكانت تلك إحدى أصعب اللحظات “السياحية” التي عشتها في حياتي. كانت السنة 2012 حين قررنا زيارة موقع برجي التجارة العالميين والذي كان حينها موقعاً كثيف التغطية الأمنية كما هو كثيف الاجتذاب للسياح وللأميركيين أنفسهم.
أتذكر الوقوف في طابور طويل يبدأ خارج المساحة كلها، ثم يلتف حلزونياً في ممر من صفيح يسير فيه الزائرون لتنظيم صفوفهم ولتأمين تفتيشهم المكثف قبل الوصول للمكان “الأخير” وهو أخير بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
يمشي الزائرون تهادياً، يتفرجون على صور لرؤساء الدول التي ساندت أميركا إبان محنتها معلقة على حوائط الممر الصفيحي، كانت صورة الراحل الشيخ جابر الأحمد معلقة، فدق قلبي يعلن وجودي الكويتي المساند على تلك الأرض الغارقة بالدماء. رغم سذاجة الفكرة واستحالتها، إلا أنها بقيت تلح علي: حين نصل سنرى ساحة حرب، حطام ودماء ولربما أشلاء. لحظة الوصول المهيبة كانت مفاجأة رهيبة.
خرجنا من الممر الحلزوني الصفيحي لساحة غناء، كأنها قطعة من الجنة “المنظمة” وقد اصطفت فيها جذوع الأشجار في خطوط مستقيمة، وانتشر فيها خضار يانع ممنهج مرسوم، جمال خارق بتصميم بشري بديع.
من منتصف كل هذا الخضار، يتهادى للمسامع صوت خرير مياه رائقة، كأن الدنيا كلها توقفت وتوحدت أصواتها في صوت هذه المياه لتغلف الكرة الأرضية بأكملها. مشيت باتجاه الصوت، ليرتفع رويداً رويداً دون أن يفقد هدوءه، كان صوتاً عاماً هاتفاً، كأنه يأتي من كل أنحاء الأرض، كأنه نفير الصور الأخير، كأنه نداء أزلي أبدي، ما استطعت أن أسمع غيره وما تمكنت سوى من الهرولة باتجاهه.
وفجأة ظهر حوضان ضخمان من المياة المنهمرة، شلالان مهيبان في مربعين رخاميين، في منتصف كل منهما مربع آخر أصغر، تسري مياه الشلالين إليه وتختفي في جوفه. وقف الناس يحيطون بالشلالين، اللذين صمما بالضبط في مربعي برجي التجارة العالميين، ينظرون للمياه، يستمعون لهديرها، يلتقطون الصور ويلمسون حافتها الرخامية.
تجمدت تماماً في مكاني، خفت إن رفعت رأسي لأعلى أن أرى أجساد الأبرياء تنهمر فوقي. ثقلت قدماي تماما، لأشعر بيد زوجي على كتفي يدفعني باتجاه حافة الشلال. حين وصلت اكتشفت أن أسماء كافة المتوفين والمفقودين محفورة على معدن الحافة المصقولة العريضة. أسندت يدي على المعدن البارد لتسقط أصابعي على جملة طويلة لن أنساها ما حييت: Crossin Kittle and her Unborn Child (كروسين كيتل وطفلها غير المولود).
اجتاحتني فاجعة، شعرت بكل الفقد يجثم على صدري، فكرت في الآلاف الذين سقطت فوق رؤوسهم ناطحتا سحاب كاملتين، في المعدودين الذين اختاروا السقوط بإرادتهم دون انتظار حكم القدر، بهذا الآمن في بطن أمه، لم أستطع أن أكمل الفكرة. ارتجفت يداي وبدأت تخور ركبتاي، وكأن زوجي استشعر القصة، فسحبني بعيداً لنخرج من هذه الجنة البديعة القاسية.
في 2019، كررت الزيارة. قلت لنفسي أن الجبن والضعف لا يليقان بي، وأن زيارة هذا الضريح الجمعي المهيب هو واجب أخلاقي. وصلت هناك أبحث عن الممر الحلزوني والجموع الغفيرة والطابور الطويل، لكنني لم أجد شيئا نهائياً. سلالم عدة أوصلتني مباشرة لمنتصف “الحديقة”، ليستقبلني الشلالان، كما هما منذ تركتهما قبل سبع سنوات، لا يزالا يهدران، لا يزالا يغنيان أغنية وداع رهيبة بلا كلمات.
أخبرت رفيقتي أنني غير قادرة على البقاء، فما أخذت كلماتي محمل الجد، وخجلت أنا من تكرار المشهد الدرامي، فتحاملت واستندت على حافة أحد الشلالين مغمضة العينين، أتفادى النظر، أعلم أني لن أقوى على حفظ اسم جديد ليعيش معي إلى الزيارة القادمة.
قرأت الفاتحة، وتلوت نصاً إنجيلياً ما كاسرة نَصِّهِ، ولو كنت أحفظ شيئاً من التوراة لتلوته، ولو كنت أتذكر شيئاً من كتب “الفيدا” البراهمية لهتفت به، ليتني أتذكر شيئاً لزرادشت، لكن عقلي الذي تحول لقطعة معدنية صافية تتساقط عليها قطرات مياه ضخمة بصوت ذى صدى مهيب، بات جامداً، لا يحضره شيئ.
حين هدأت، درت حول نفسي مرات عدة مبهورة بهذا المكان الذي كان منطقة أمنية مشددة متحولاً لحديقة غناء مفتوحة من كل جوانبها، يجلس الناس على بعض كراسيها يتناولون ساندويشاتهم، يعبرها المشاة مسرعين خطوهم، وتلتف حولها السيارات بسرعة الملتهي بالحياة عن كل الموت الذي ساد هنا.
لا أعتقد أنني أود زيارة هذا الموقع مجدداً. هو رائع، مهيب، ويستحق الزيارة في كل مرة تسنح الفرصة، لكنني لا أتصور أنني قادرة بعد الآن. صدى صوت المياه، حوم الأرواح على أسطح الشلالين المعدنية، ذلك المربع الصغير في وسط المربع الكبير الذي يشعرني أنه ابتلع كل الناس والمباني والأشياء، هذه الأشجار المصطفة بانتظام بأوراقها اليانعة لتذكرنا بديمومة الطبيعة وبفنائنا، “كل هذا يشيع بقلبي الوهن/ كل هذا “الجمال” يذكرني بالكفن” (مع الاعتذار من أمل دنقل)، ولا أصعب من أن يرتبط الجمال بالموت، فيمسك بذاكرتك وروحك، ليصبح الموت جميلاً والجمال فناءً وأنت البشر المسكين المنمنم لا شيئ وسط كل هذا الصخب العظيم.
لا مكان في يوم ذكرى سقوط البرجين للحديث السياسي غير النظيف، لنقاش نظريات المؤامرة، لتحليل الخطوات الأميركية التالية ولفلسفة معنى وهدف حرب “الحرب على الإرهاب” التي تلت.
تلك كلها لها زمنها، أما هذه الأيام، فهي أيام تذكر جنسنا البشري بفاجعة القتل الجماعي تلك التي ستبقى وصمة في جبين جنسنا وعلى خديه السياسيين اللذين لطالما استخدم “احمرارهما” ليبرر كل سقطاته.
بغض النظر عن الموقف من السياسة الأميركية، اليوم يوم عزاء للبشرية بأكملها، كما هو يوم ذكرى المجزرة الأرمنية، كما هو يوم ذكرى مذبحة صبرا وشتيلا، كما هو يوم ذكرى المذابح النازية، وكما هي أيام ذكرى مجازر رواندا، وتلك فقط غيض من فيض. جنسنا جنس غريب فعلاً.
سلام على روح كروسين كيتل وصغيرها الذي لم ير النور، سلام على كل الأرواح المعذبة المنتهكة التي أُجبرت أن تغادر قبل ميعادها، سلام على من يتعذبون الآن ليتجاهلهم من تعذبوا قبلهم وذاقوا معاناتهم، سلام على جنسنا الغريب المريب المهيب الذاهب للعدم والذي لا يزال رغم عدميته يتطلع بألم وأمل.