«بنسفة» غترته المعتادة التي ترقد بأناقة على رأسه وبذات الوجه الهادئ، تقدم خالد الفضالة من بوابة مقر التحالف الوطني الديمقراطي معلناً أنه أتى بملء إرادته بناءً على طلب من «الداخلية» ليتقابل مع رجالها ويرافقهم إلى حيث يبدأ تنفيذ الأشهر الثلاثة المهداة له كمواطن صاحب رأي. لا، ليس هذا وصفاً عادلاً دقيقاً، فكلنا مواطنون ولكل منا رأي، ولكن خالد مواطن قيادي، وخالد صاحب رأي قدمه للعلن عوضاً عن أن يدسه في أحاديث الدواوين أو يبثه في دهاليز الحوارات الخافتة الجانبية.
كنت أنا أضغط على دواسة بنزين سيارتي أسابق غبار يوم الجمعة المصفر المغبر إلى حيث مقر التحالف، وكنت أريد أن أرى خالداً وأقول لخالد وأصفق لخالد، كنت أريد أن أرقب يديه هل سترتعشان أم هو يملك أمرهما كما يملك أمر كلماته؟ ولكنني وصلت متأخرة، دائماً أصل متأخرة، دائماً نصل كلنا متأخرين. كان خالد قد غادر وهو يوصي ربعه خيراً برجال الداخلية طالباً منهم ألا ينطق أحد بكلمة جارحة بحقهم وهم الذين لم يقوموا سوى بأداء واجبهم، وفي صدر قاعة مقر التحالف، جلس د. سند الفضالة هادئاً حزيناً وقوياً، وتحدث عن إلحاح العقلانية في هذا الموقف والهدوء والتمسك بزمام الحكمة، وقلت أنا إنني أريد أن أغضب، وقال آخرون إن الهدوء أفضل، ثم عدت للبيت أفكر بخالد في سجنه، هذا الشاب خريح جامعات أميركا، أمين عام التحالف الوطني الديمقراطي، الدمث المثابر، يبيت ليلته في السجن بعد أن غادر مقر التحالف، وهو يبتسم في وجه رفاقه، كما يبدو من التسجيل المبثوث على اليوتيوب دافعاً: «رفعوا راسكم شباب» رافعاً يدا لا ترتجف… كما توقعت… يقبل جبين والده الذي يبتسم له بدوره قائلاً «يا خالد، قلوبنا معاك».
تعود بي الذاكرة الخائنة إلى أحد أبرز السجناء السياسيين في الكويت، د. أحمد الربعي رحمه الله، تتناهبني صور غائمة متفرقة، لا أكاد أميز فيها شيئا، فيختلط وجه خالد بوجه أحمد، ثم يظهر وجه محمد. أتذكر في مقابلته على قناة «الجزيرة» في برنامج الاتجاه المعاكس أن الدكتور أحمد قال لمناظره العراقي في المقابلة «أنا أتعاطف معاك، أنت خائف على أولادك، أنت تقول غير هالكلام تروح فيها، أنا والله العظيم لو سألوني الآن سؤال ضد حكومة الكويت وأنا مقتنع لتكلمت بحرية وراح أروح أنام مع أطفالي في البيت ماني خايف من أحد».
يا دكتور، خالد الفضالة تكلم، وخالد الفضالة نايم اليوم في السجن، وأنا خائفة والشباب خائفون والشابات خائفات، فالكلمة أصبح لها شفرة، والشفرة لها من يسنها، فتنزلق حافتها الدقيقة فوق القلوب وتشيع فيها الوجل الأحمر. لا أعتقد أن «الأمان» أصبح عنوان الحالة الكويتية اليوم، فأنت يا دكتور أحمد بالرغم من سجنك كنت لا تزال تشعر بالأمان، وخالد بالرغم من وضعه تركنا مبتسماً مرفوع الرأس، ومحمد بالرغم من حبسه عاد يؤكد استمرار قلمه، وأنا وأهل الديرة دون أصفاد ولكننا خائفون، ننتظر الدور الذي سيحين، وعلى من سيحين. ضاقت فينا لؤلؤة الخليج يا دكتور، ويبدو أن السجن أصبح أكثر فسحة ورحابة، ومما نرى، يبدو أنه لكي نشعر بالأمان والحرية نحتاج جميعاً أن نتذوق عدس ما خلف القضبان.
قبضوا على خالد الفضالة منتصف يوم الجمعة، العطلة الأسبوعية التي يغيب فيها الناس في فسحاتهم وتغيب فيها إدارات الدولة في قيلولة أسبوعية، لتصبح عيوننا بصيرة وأيادينا قصيرة، لم يكن بالإمكان الانتظار ليوم الأحد مثلاً حتى تتحدد جلسة الاستئناف، ففي الغالب سيستغل خالد يومي العطلة لينفذ مخططه التخريبي الذي لا تجبير بعده ولا تطبيب. كان لابد من القبض عليه يوم الجمعة، في عز الظهر الأغبر، في أوج مباريات كأس العالم، لابد حتى يستتب الأمن والأمان، والآن هل تشعرون بهما… الأمن والأمان؟
وصلت أنا متأخرة… حالما صرخها خالد «كل شي عشان الكويت يهون».