ليس التدخل الخارجي، ليست أميركا أو إسرائيل، ليست إيران أو العراق، ليس حزب الله أو القاعدة، بلاؤنا منا وفينا، وما تساهم تلك العوامل الخارجية سوى بالدفعة الأخيرة أسفل وادي الخراب السحيق… الطائفية والانقسامات إنما هي صنيعة سياسات البلد وتوجهات مسؤوليه، والاختراق لا يحدث إلا عندما تصنع السياسة فجوة بتخاذلها وتهاونها في حقوق مواطني البلد، وبلا شك لإيران تأثير إقليمي كبير كونها قوة عظمى في المنطقة ديموغرافياً وجغرافياً وعسكرياً، وبلا شك هي ذات هيمنة دينية كبيرة بما تصدر من مجتهدي المذهب الشيعي كما تصدر الجارة السعودية مجتهدي المذهب السني.
كل تلك الهيمنة ما كانت لتشكل مصدر تهديد لدول الخليج لو كان شيعتها يشعرون بالمواطنة الكاملة، تلك حقيقة لابد من مواجهتها إن كنا نبتغي الخروج من مظلة مخاوفنا تجاه القوى الإيرانية، ما لا تريد أن تستوعبه كل الدول العربية، وذلك واضح من تعاملها مع الثورات المندلعة فيها، هو أن عصر الدفاع والهجوم المسلح إلى انحسار، اليوم الحراك السياسي في أغلبه فكري، وإن كان لإيران أن تخترق، فهي ستفعل من خلال الفئة المستضعفة الشاعرة بالغبن سواء كان عميقاً أو طفيفاً.
تثور المخاوف في كل دولة من دول الخليج الصغيرة الرقيقة الراقدة على الخليج مقابل العملاق الإيراني، وفي كل من هذه الدول، وبدرجات متفاوتة، يتمايز الوضع الشيعي سلباً بما يمهد لاختراق سهل ليس فقط من الجانب الإيراني، ولكن من أي جانب متربص آخر، فليس الحل في تخويف أو قمع هذه الفئة الشيعية، إنما يأتي الاستقرار من ضمها في المنظومة الوطنية وإشعارها بالمواطنة الكاملة غير المنقوصة، ففي دولنا الخليجية الصغيرة، المتواضعة في أعداد سكانها وقدراتها العسكرية، يأتي السلاح الفكري السياسي في مقدمة المصدات الحامية للبلد، مستنداً إلى وفرة مالية تمهد لعيش كريم وتعليم عال للأغلبية العظمى من مواطنيها.
لابد، اليوم قبل الغد، من علمنة دولنا الخليجية، دون انسلاخ من طبيعتها الشرقية الخاصة، ودون انفصال «مجتمعي» عن دينها الإسلامي المهيمن، وذلك من منظورين: منظور قانوني «يمدن» القوانين بأكملها ويفصلها عن أي توجه ديني، ومنظور مواطني تعزز من خلاله الدولة الفكرة المجتمعية للمساواة بين مواطنيها، فلا تعزلهم طوائف في مناطقها، ولا تصنفهم طبقات في حظوتهم بوظائفها وخدماتها وفرص تكوين المستقبل فيها. من أجل أن تنمو وتستقر وتتألق دولنا الخليجية، فهي أحوج ما تكون اليوم، ليس إلى درع جزيرة بمعداته وأسلحته، بل هي بحاجة إلى درع اجتماعي فكري يساوي بين مواطنيها ويحميهم من التمييز الديني الذي هو المتسبب الأول في الخروقات والتهديدات الخارجية، فأسلحة الدنيا بأكملها لن تتمكن من صد الثورة الإنسانية على الظلم، ولن تعيد الاستقرار النفسي والتفكير المنطقي لمن فقد الأمل في العيش الكريم.
لا أؤمن للحظة أن ثورة البحرين ثورة طائفية، فالبحرينيون، شيعتهم وسنتهم، يعشقون أرضهم الصغيرة بشكل غير مسبوق، ولكنها ثورة مواطنية ضد سنين من القمع والتمييز في فرص العيش الكريم، وما كانت لتتخذ هذه الثورة صبغة مذهبية لولا أن الأغلبية السكانية في البحرين من الشيعة، وفي مفارقة مضحكة، هم الفئة المقموعة بالرغم من تلك الأغلبية، فأي مظاهرة يخرج فيها سكان البحرين، من أجل أي غرض وتحت أي مسمى ستبدو دائماً ذات صبغة مذهبية، لمن يحمل في قلبه هذا التمييز البغيض، بما أنهم أغلبية في موطنهم البحريني.
لقد تأخر النظام البحريني كثيراً في التجاوب مع المطالبات الشرعية لمواطنيه حتى أخذ الوضع شكل غاية في الدمامة، فسارع النظام في إدخال قوى عسكرية خارجية لعمل عملية تجميل سريعة، فانتفخت خدود البحرين الجميلة، وتشوهت شفتاها الرقيقتان، وانطبعت قلوبنا جميعاً بالأسى المرير. ليست الأزمة خارجية، وليست المسؤولية على أصحاب الأصوات الناعرة بالطائفية من كلا الطرفين، فهم في الواقع ضحية تقويض مواطني داخلي، فتلك النعرة ما هي إلا صدى لسياسات داخلية تقسيمية لأبناء الوطن الواحد.
وحتى «نأتي بالكلام من آخره» نعم، أنا طائفية شيعية في موقف لن يتزحزح؛ مساندة للمطالب المواطنية الشرعية لجيراننا الأحبة، مثلما كنت «منشقة» في انتقاد حزب الله الذي بسياساته المريبة قوض الأمن اللبناني الداخلي بأكمله، ومثلما كنت «زنديقة» في مطالباتي بمساواة المواطن المسلم والمسيحي واليهودي واللاديني في الحقوق والواجبات، والأهم في تشكيل القوانين التي ستحكمهم جميعاً تحت مظلة بلدهم المدني الحديث.
ولنتذكر أن المطالبة بحقوق الأقلية ومساواتهم المدنية هي المطالبة الإنسانية الحقة، فكيف عندما تكون حقوق أغلبية مقموعة في بلدها؟ ولنتبصر أن الحقوق المطالب بها هي حقوق مدنية تساوي كل الأطرف وليست امتيازات دينية بأي شكل، وإلى أن يحل العدل، قلوبنا معك أيتها الجزيرة الجميلة.