إن ضاق فيك الفضا
وما تدري وين تروح
وحسيت إن النفس
آخر نفس بالروح
انسى… وبالك تعد
جم وصلوا الجروح.
هكذا أرسل الصديق الشاعر وضاح يقول في قصيدته التي حملت عنوان “كسر قزاز الروح”، هكذا يوصي من تضيق به الدنيا ويطبق عليه زجاج روحه، وآه من زجاج الروح، ترى خلفه آمالك، أمنياتك، تفصلك شفافيته عن عالم سحري عادل فيه البشر أحرار سعداء، لا جائع ولا محروم ولا مقهور، لكنك لا تصل إليه أبداً، تمد يدك فتصطدم بشفاف الزجاج، تحوم حول نفسك، تتقطع أنفاسك، تشوح بيديك تحارب زجاج نفسك، ثم تجلس مهزوماً مترنح الأنفاس، وكيف لك أن تنتصر على شيء لا تراه؟
ما تدري إن الشقا
لما تعده… يزيد؟
ثالوث…
يكثر بقلبك…
تمسحه… ويزيد!
مهموم… وإنت الذي ما تدري شنهو تريد؟!
افتح درايش هوا كسر قزاز الروح.
أُنسي هو “عد الشقا”، يلهيني عن الغوص في أعماقه، أتلهى بعد ساعات الألم، أتذكر وأذكر نفسي وكأنني أعاقبها، أنام وأم عبدالعزيز تحوم بأولادها لا تعرف من أين توفر لهم اللقمة، أسافر وجمانة ذات السنوات العشر تبكي حرمانها من ركوب الطائرة مع والدتها لأنها “بدون” جواز سفر، أتسوق وسالم لا يزال يبحث عن عمل، أضحك والاصطبلات تمتلئ بدموع سكانها من البدون، أعيش ويموت أطفال سورية، ألمٌ ينتشر وبوفرة تغريك بِعَدِّه، لا تستطيع إلا أن تستعرض كثافته وتتابعه، حتى في أدفأ اللحظات، وأنا أتمشى في ردهات الأفنيوز الفاخرة، تهاجمني الفكرة: في كل ركن هنا حمام تقبع فيه سيده بائسة تنتظر مروري وغيري لندس فتات بذخنا في يدها، كل الوقت الذي أمضيه في المتاجر وعلى كراسي المقاهي الأنيقة تقضيه هي عند باب الحمام، مكبوبة على مراحيضه، إنها حالة من التناقض تستصرخ التذكر وتستدعي العدّ وتتصدر كل عذابات الروح، وأنا أحب أن أعدّها، عذابات الروح، ثمن بسيط لراحتي ورفاهية حياتي التي لا تعدو كونها مصادفة، ساقها القدر إلي ومنعها عن غيري، فكيف لا أعدّ؟ كيف “افتح درايش هوا” وأنا كما قلت يا صديقي وضاح “ما أدري شنهو أريد”.
تنشف جروحك ترى لما الهوا العالي
تسمح له إنه يمر في غرفتك… ويرووووووح.
قليلة هي اللحظات التي تجف فيها آلام الروح. قبل يومين انضغط قلبي على إثر فشلي في تقديم مساعدة مستحقة، عدت أنا لحياتي وذهبوا هم لهمهم الذي لن يزول، أنا أعيش وهم يعيشون، أنا سأنسى المشكلة بعد حين وهي كل حياتهم في كل حين. أخذت الفكرة علي روحي، ضاق زجاج نفسي حتى شعرت به يطبق على أنفاسي، ولأن الهمّ بالهمّ يذكر، هاجمتني ذكرى فقد قريب، ثم ذكرى جرح أليم، ثم اختلط ألمهم بألمي، فما عدت أعرف أيهم يضغط على رئتي، ثم… رنة تلفون، صورة لهدية من زوجي، حقيبة صغيرة مكتوب عليها: “أمل، حب، كرامة، سعادة، الإنسان”، مصحوبة بملاحظته: “الكلمات عليها كلها أنت”. قلت ليتني أستطيع أن أراني بعينيك، وقال المهم أن تكوني مخلصة، وقلت ولكن بلا حيلة، وقال المهم المحاولة، وقلت ليس لأصحاب المأساة، هم لا يريدون المحاولة، هم يريدون فرجة أمل، وقال المهم أن تكوني إنسانة، وقلت وما فائدتها إن كانت ناقصة، لا تمتلك المال ولا القرار لتطبب شيئاً من الألم، ما فائدة الإنسانية العاجزة؟ وكأنني أرفض النسمة الرقيقة، أغلقت زجاج الروح وعدت أعدّ الألم.
والآن، كلما ازداد الألم تذكرت الحقيبة الجميلة وكلمات من يراني بعين المحب الكاذبة، فإذا بها تدفع إلي بنفس إضافي، بنسمة جديدة، أستنشقها سريعاً وأحتفظ بها طويلاً في صدري، ولكن، مصيرها للخروج، لتتركني وآلامي أتسلى بِعَدِّها وعجزي أتونس بتذكره. لا تنشف جروحي يا صديقي الشاعر، فهواؤنا ها هنا لا يرتفع أبداً، قد أثخن قلبي شعرك دامي الجمال، فهل من نصح لمن لا تجف جروحه أبداً؟