أنهيت هذه الأيام قراءة رواية بعنوان «ماريو وأبو العباس» للروائية ريم بسيوني، التي تؤرخ فيها الكاتبة بروعة ورومانسية حياة المرسي أبو العباس، «قديس» ومتصوف الإسكندرية الذي تحلف المدينة كلها باسمه وتتغنى بكراماته. لربما لم يكن اختياري زمنياً موفقاً لهذه الرواية التي على الرغم من روعتها اللغوية وقيمتها التاريخية وجمالها السردي، فإنها رواية تحكي عن التسامح المتصوف، عن هذه المغفرة وذلك العفو النابعين من صفاء تام لقلب لا يرغب في شيء سوى لقاء الخالق ولا يحب غيره ولا يرغب سوى صحبته، وهي سردية نفسية لا تتماشى مع ظروف الزمان والمكان، على المستويين العام والشخصي.
تقول بسيوني على لسان شخصية ابن عطاء الله: «عندما يصبح الصديق عدواً يكون الابتلاء مضاعفاً، لأن صديقك يدرك ما يعز عليك وما يرخص أمامك، وعندما يضرب الصديق يصيب القلب والعزيز»(201). لم تتركني هذه الجملة منذ قرأتها على الرغم من امتلاء الرواية بأجمل ما كُتب عن الصفح والمغفرة والمحبة في الله، وعلى الرغم من أنها جملة متكررة ولربما تكون كليشيهية لكثرة ما نتداولها في أوقات الضيق والغصب. لكن صداها دوى هذه المرة في أذني وأنا أتذوق طعم الكراهية والسخط والرفض الواعي للنسيان أو إيجاد العذر أو التفهم، فأي نسيان أو معذرة أو تفهم تنفع مع هذا المحيط الممتد الطافح من الدماء؟
ولأننا بشر أنانيون، تدفعنا تجاربنا الشخصية وتشكل ردود فعلنا، وقد يكون أنه بسبب أننا بشر أنانيون، نحن قادرون على التعاطف مع آلام ومعاناة وعذابات الآخرين من خلال اتصالها كلها بآلامنا وتذكيرها لنا بها. بلا شك، حين التفكير في الوجود الصهيوني، الجملة الوحيدة التي تتردد في ذهني والتي طالما أنشدناها في وقفاتنا الاعتصامية من أجل غزة هي «لا سلام ولا استسلام، الانتقام الانتقام». لا أتذكر أنني اختبرت في حياتي كلها كرهاً ورغبة في الانتقام كما أفعل الآن، فأنا لا أريد للإبادة أن تتوقف فقط، لا أريد للحرب أن تخبو والقصف أن يهدأ فقط، أريد أن أرى الجنود الصهاينة يتعذبون، أن أبصر نتنياهو مقهوراً ذليلاً، أن أشهد كل ما آزر الصهاينة ليس فقط نادماً معتذراً بل متعذباً بدفع ثمن هو على قدر الخطيئة الفاحشة، ولربما يزيد.
ها هو الغضب متراكم و»الابتلاء مضاعف» بفعل أن بعض الغدر أتى من الأقربين، فكيف سنسامح، وكيف نصفي القلب لكي يتذكر هذا الذي كان وما عاد؟ كلما شهدت تصويراً لغزاوية ثكلها تودع شابّها بالزغاريد، وتذكرت الشاب الآمن في بيتي الذي لو مُسّ طرف إصبعه سيأكلني الحزن مذيباً جلدي وشحمي وعظمي كأنه حمض أسيدي مميت، كلما تذكرت روح الروح، ويوسف أبو شعر كيرلي، وحلا مستغيثة من تحت الركام، وهند متضرعة من السيارة التي استشهد أهلها كلهم فيها، والمواليد الخدج الذين ارتقوا خارج حاضناتهم وعلى أرضيات المستشفيات الباردة، كلما تذكرت كل المشاهد المتتالية الحارقة تلك، توغل بي الغضب كالسكين المسنون، وكلما تذكرت أنانية غضبي توغل بي الحَرج كلسان نار في الجوف، وكلما تذكرت تفاهة تحولي لمشاعري الشخصية في خضم كل ذلك توغل بي الشعور باللا جدوى، باليأس من جنسنا ومن حياته اللحظية العدمية السخيفة. أي مذهب تذهب أرواحنا حين نشهد نحن الظلم والقهر، نشهد انصياعنا وقلة حيلتنا التي تتشكل كلها آثاماً بحق الآخرين، وكيف نخرج من هذه الدائرة الحارقة لنبدأ بالتفكير المجدي وتقديم أي درجة من المساعدة الفاعلة؟
وحين آذتني تلك التي كانت صديقة قلب ذات يوم، وحين أساءت بي الظن من أحسنته فيها، وحين تغرّبت عني هذه التي قضيت ليلاً في بيتها، وجدت صدري مليئاً بالغضب والنقمة، خالياً من التسامح والمغفرة، مدفوناً أسفل طبقات من الآلام والأوجاع. فجأة برزت فلسطين، ولأن العذاب بالعذاب يذكر، أطل السودان بوجهه، ليلحقه كل من اليمن وإيران وأفغانستان، ومن ثم حضر السؤال: أي جدوى من التسامح تتحقق في هذا العالم الغريب البارد؟ كيف يسامح بعضنا بعضاً ومثل هذه الجرائم البشعة تحدث لبني جنسنا وبسببه؟ ولأنني بشر أناني لا سبيل لتطهير قلبي النابض بتركيزي على ذاتي وكأنني مركز للكون، انصبّ غضبي وألمي على هذه الصديقة وتلك وتلك، كرهتهن جميعاً في هذه اللحظة، وفقدت كل قدرة على التسامح أو المغفرة أو حتى مجرد التواصل بسلام أو تحية. غابت عن روحي كل استطاعة على الغفران بل وكل رغبة به، وكأن عذاب غزة المرئي وعذاب السودان المخفي وعذاب اليمن المهمل وعذاب أفغانستان المنسي، كلهم تجمعوا كرة نار في صدري تسحق ما يأتي في طريقها وتأخذ أي متبق من تسامح وإيمان بجدواه في ألسنة لهيبها. لماذا أغفر هذه السخافات الشخصية؟ أي معنى وجدوى لهذه المغفرة؟ أي تحسن سيضيف التسامح لحياتي أو حياة المعنيات أو حياة أي أحد حولنا؟ لنتعذب بالغضب والكره، هو ما نستحقه في هذه الدنيا على كل حال.
لا أعتقد أن غزة تركت مكاناً لشيء رائق هادئ متسامح في صدري، ليس به سوى نار تأكل من يمسها. كنت قادرة على أن أتجاوز أحياناً من يمس روحي بأذى أو على الأقل أن أمثّل ذلك. كنت قادرة على إلقاء تحية الصباح على من أساءت الظن وانكفأت وتغيرت بين ليلة وضحاها، كنت قادرة على الابتسام في وجه من فتحت جرحاً في روحي ثم رشته ملحاً وخلّاً، كنت قادرة على التمثيل ذات يوم، ثم كانت غزة، فطفى الغضب، واشتعل الألم، وماتت كل قدرة على التسامح والتبرير ومحاولة فهم الآخرين. رحم الله روحي التي كانت وما عادت إن كانت تستحق الرحمة، ورحم الله شهداء غزة الذين كانوا وسيبقون ولا غيرهم يستحق الرحمة. وغفرانك يا سيدي المرسي أبو العباس إذا كنت أنا قد فقدت القدرة على استشعار ما تقول حين تقول: «عافيته في الطمأنينة وغناه في اليقين والقوة في الصبر معه وإليه والوصول له به» (بسيوني،162)، فمن أين لنا بطمأنينة ويقين وصبر؟