غريب كيف تتشابك وتتداخل الأحزان حين تمر بنا، كأنها شجرة وارفة، تتسلق أغصانها فوق بعضها البعض فتتلوى وتلتف حتى يصبح من الصعب معرفة جذر الغصن من طرفه، بداية نتأته من جذع الشجرة من تدبيب نهايته. لا أدري إن كنت ضمن أقلية من البشر تلتف أحزانها وتتعقد حتى تصبح كأنها كرمة عنب ضخمة تظلل الروح، لا نعرف كيف بدأت وأين انتهت، ما هي أقوى سيقانها وما هي أرق أغصانها، أم أن البشر كلهم هكذا، يأخذون أحزانهم دفعة واحدة، يعجنونها مع بعضها البعض حتى لا يظهر لها رأس من قدمين، أول من آخر، حتى لا يستطيعون التفريق بين حزن رئيسي وآخر جانبي، حزن عميق وآخر ضحل، لتتداخل الأحزان في دكانتها سائحة في الروح كالشوكولاتة الثقيلة العصية على الذوبان.
قبل أيام كنت أحضر عرسا صغيرا خاصا أعرف معظم المدعوات إليه. وفيم أنا أتأمل الوجوه بمساحيق تجميلها وأقمشة الساتان والحرير والجبير والدانتيل بألوانها وخشخشاتها وكؤوس العصير الآتية وفناجين القهوة المغادرة وقطع الشوكولاتة اللذيذة التي قاومتها إلا واحدة في نهاية الحفل، فيم أنا مغمورة في كل ذلك، لفحني تيار حزن ثقيل غريب على الزمان والمكان. تأملت في السيدات المبتسمات الراقصات، يتهادين هنا ويتساررن هناك متضاحكات بصوت ثقيل مفتعل، وتذكرت ما أعرف من هموم كل واحدة منهن، تلك التي تزوج عليها زوجها بعد زواج دام 20 سنة لينتهي بطلاق تركت هي بعده للأخرى الجمل بما حمل، وتلك التي تعاركت مع طليقها سنوات في قضية حضانة حارقة، وهذه الهزيلة الضامرة المتعلقة بأبنائها تعلقاً مرضياً لا نعرف كيف ستتخطاه إذا ما تزوجوا، وهذه الأخرى المتزوجة من غير كويتي لتعاني الأمرين في ترتيب أمور أبنائها “الأجانب” في بلدها، والخامسة التي بلعت موساً حامياً ببقائها زوجة أولى لزوج يعدد الزوجات والعشيقات، وهذه التي جحدها أبناؤها، وتلك التي تحب وتكره أمها في ذات الوقت، والأخرى ذات الطفل المعاق الذي قلب حياتها رأساً على عقب وتلك التي تستخدم جرأة مظهر وسلوك تغطي بهما ذكريات طفولة موجعة وغيرهن الكثيرات، ومن منا تخلو من ألم يقرص قلبها وهم يقض مضجعها؟
استحضرت أنا كل هذه الهموم وأنا أجلس بفستاني المليء بالورود وأحمر شفاهي الذي أكره وكعبي الذي كان يأكل أصابع قدمي أكلاً. أهو تأثير دموع ذرفتها منذ فترة تستحضر الآن آلام الموجودات أم هو قلقي المادي تجاه القادم من المصروفات أم هو غضبي من مجاملة اضطررتها قبل أيام كارهة أم هي حيرتي تجاه قسوة وجفاف ممن كان حبيباً وقريباً أم هو شيء آخر دفين قديم تستحضره نفسي كلما وجدت بعض السعادة وكلما توارت خلف شيء من النسيان وكأنها تعاقبني على لحظات الرضا تلك؟ خرجت من الحفل وأنا مثقلة منهكة، طنين صارخ يخترق أذني وحرقة مزعجة تستقر على شفتي، لعلها نتاج أحمر الشفاه الذي هو أبداً “لا يليق بي.” نمت يومها ليلة مضطربة لأصحو على صباح أكثر اضطراباً، فهي حين تمطر، تَرْعَد.
اتصلت بي مبكراً، وبعدْ طنين حفل الليلة السابقة يدور في أذني مع الصداع الذي يقترب حثيثاً من أن يتحول إلى نصفي. بصوت رفيع وكلمات متقطعة أخبرتني أنها منهكة وأن أبناءها جوعى وأن زوجها بلا عمل وأن المهم هو أن تستطيع أن تدفع قسط ابنتها الجامعي على حساب كل العذابات التي عدَّدّتها والتي لم تعددها ولكنني أعرفها جيداً. وعدتها خيراً وأنا في الواقع كاذبة، فهي تنتظر مثل مئات الأمهات لعائلات عديمة الجنسية واللواتي يأملن تسديد أقساط أبنائهن في الجامعات والمدارس الخاصة، وأنا أعرف أنني لن أستطيع شيئاً في هم جمعي يحتاج لعمل مؤسسي. وفيم أنا أفكر فيها وفي صغيرتها التي تبدأ الحياة بحمل ثقيل لا يناسب سني عمرها ولا براءة وجهها، حضرني وجه الصغيرة التي فقدت والدها لزوجة أخرى صنع معها أسرة أخرى فنسيها هي وأمها وأخواتها كل النسيان. تذكرت وجهها من ليلة الحفل السابقة وهو مزين بألوان متنافرة وصغر سنها، وكأنها تحث الخطى لتتخطى طفولة ما عاد لها معنى مع تجربة حياتها القاسية. تداخل وجه الفتاتين وطنين أذني وصداعي، وثقلت روحي حتى عافت كوب الشاي الذي أشتهيه أكثر من من أي شيء في أول صباحاتي.
أمضيت بقية اليوم هائمة، أتحرك بميكانيكية لا هدف لها سوى أن توصلني لليل رحيم ينهي هذا اليوم وسابقه الثقيلين ويطوي أحمالهما في أحلام نومة طيبة. ارتميت متعبة على سريري تلك الليلة بعد أن ألقيت نظرة سريعة على وجهي في مرآة أخبرتني أنني كبرت عشر سنوات خلال أيام، فتركت وجهي مع المرآة وذهبت أدفن رأسا بلا وجه في المخدة الناعمة، ترى هل تملك هذه الصغيرة المتعذبة بقسطها الجامعي مخدة مشابهة؟ أتراها نائمة الآن أم مسهدة بغضبها من الدنيا ونقمتها، التي أستحق، علي؟ بدا اليوم التالي أكثر رحمة حين استيقظت مستريحة بعض الشي على الرغم من كل أحلام الليلة السابقة، مستهدفة كوب الشاي الذي شربته في رشفتين طويلتين صادحتين، متأملة يوماً أكثر روقاناً وهدوءاً.
إلا أن هذا اليوم ما أن انتصف، حتى اتصلت بي ابنتي بصراخها على الطرف الآخر. وما بين نحيب ونشيج فهمت أن فيديو بشع قد وصلها يظهر بشراً، لم يعد إنساناً، يلاحق كلبا بسيارته مستهدفاً دهسه. “أفكر في هذه اللحظات الأخيرة المرعبة لهذا الكائن البريء،” كانت تصرخ بهذيان، “هذا الكلب الذي يعشق الإنسان والذي لربما لو نزل سائق السيارة ليربت عليه لكان التصق به محتمياً ومحباً. أفكر فيه ماما وهو يجري مرعوباً لاهثاً متعذباً ليلقى حتفه بهكذا نهاية بشعة.” وبين شهقاتها وزفراتها حاولت تهدئتها طالبة منها أن تكف عن هذه الخيالات، مؤكدة لها أن هذا الكلب في مكان أفضل الآن. نعم، قلت هذا الكلام لإبنتي الشابة وهي تقود سيارتها عائدة من عملها، وماذا أملك غير أكاذيب الطفولة تلك أكررها عليها وأمسح بها على قلبها المكلوم؟ ما أقول لها وهي تعيش أجمل سني شبابها؟ هذه الدنيا لا عدالة فيها ولا رحمة؟ هذا كون بارد جامد لا يأبه بكل آلامنا وأحزاننا دعي عنك آلام كلب صغير مات مدهوساً تحت عجلات سيارة فاخرة لبشر أبله شرس؟ ماذا أقول ونحن جنس لا ينصف نفسه حتى نأمل منه أن ينصف الكائنات الأخرى؟
ها هو الطنين يعود مخترقاً أذني بألم ساطع ينزل على عيني، وها هو طعم الشاي الذي كان رائقاً في أول الصباح يتصاعد بشعور غثيان متسلقاً بلعومي، وها هي الصور تتخالط وتتضارب في ذهني بين تلك التي لصغيرة باكية مستقبلها وأخرى ناحبة ماضيها وتلك المفجوعة بجحود والأخرى المتعذبة ببعد وفراق لتختلط كلها بصورة أخيرة لحيوان بريء مرعوب يأن مدهوساً تحت عجلات سيارة ضخمة. ولأنني بشر أناني، تفوق جرح قديم على كل هذه المآسي، جرح تتعثر فيه روحي كلما صادفت جراحات الآخرين. الآن، اختلط الحابل بالنابل، وتداخلت الأحزان بالأحزان والأوجاع بالأوجاع، وارتفع الطنين وهبط وجع الرأس متدحرجاً على وجهي حتى وصل إلى شفاهي الجافة، وتداخلت الصور لتشكل كرمة آلام ستظللني لأيام طويلة بوجعها، كرمة جميلة عميقة فائقة السماكة، تماماً كما هي الأحزان التي صَنَعَتْها. استسلمت روحي “لجمال” ودفئ الحزن وتركت نفسي بقية اليوم كسيرة حزينة دون أدنى محاولة مقاومة. لربما يوم غد يكون أفضل، فأرى شيء من نور الشمس يتخلل الكرمة ذات “العتمة الباهرة.”** تصبحون وتمسون على خير.
*الأسود يليق بك لأحلام مستغانمي، ليست من أفضل الروايات العربية.
**تلك العتمة الباهرة للطاهر بن جلون، من أجل ما كتب الرواة العرب.