كذبة مريحة

منذ أن بدأت أخبار وباء الكورونا في الانتشار مثيرة الذعر حول العالم أجمع، بدأ الشارع العربي الإسلامي بالإشارة إلى العقوبة الإلهية المتضمنة في هذا الوباء. يرتفع هذا التفسير إلى سطح الآراء مع كل حدث ذي طبيعة تخريبية يقع في موقع جغرافي ما معروف بابتعاده عن المواقع الإسلامية أو بارتباطه ببعض المشكلات السياسية مع المسلمين. حين تضرب المصائب غير المسلمين، هو عقاب من الله على «شركهم»، وحين يكون هناك ضحايا من المسلمين هو «أضرار جانبية» لا مناص من وقوعها، وحين تضرب المصائب المسلمين هو اختبار من الله لهم، وأحياناً هي عقوبات كذلك على عصيانهم. المصائب دوماً إشارات إلهية تحمل أحكام الرب العقابية أو الاختبارية لخلقه على الأرض، إلا أن الفرق الواضح في التعامل مع المصائب التي تقع في «دور الكفر» عن تلك التي تقع في «دور الإسلام» يتجلى في أن الأولى يتم تناولها بنوع من التشفي، وكأن الخالق قد انتقم للمسلمين من أعدائهم مرسلاً لهم كوارث تشكل دلالات على موقف الخالق منهم، في حين أن الثانية يتم تناولها على أنها نوع من التحذير المرسل رحمة بالمسلمين، وكأن الخالق يرسل رسالات تنبيهية لقوم يود أن ينير لهم طريق الصواب من خلال هذه الإنذارات التحذيرية المبكرة.
بكل تأكيد، ليس هذا هو رأي كل رجالات الدين المسلمين، فقد ظهر عدد من الآراء التنويرية الجيدة التي تشير إلى خرافية هذا التفكير، بل ونفاق تشكيله من حيث وزنه بميزانين مختلفين حسب دين المنكوبين. فقد ظهرت آراء تشير إلى أن الحياة دار اختبار والآخرة دار عقاب وإن وقعت عقوبات وجزاءات في الدنيا أحياناً، وأن تحميل كل ما يحدث محمل موقف إلهي عقابي هو موقف خطر يتطلب تصدي المنطقيين له حين تعاملهم مع حالات فزع العامة. رغم ذلك، لا يمكن إغفال انتشار هذا التناول الخرافي لأحداث النكبات في الشارع العربي الإسلامي العام، وذلك إما بالفهم العقابي للنكبة لغير المسلمين أو بالفهم الاختباري لها بالنسبة للمسلمين. هذا التوجه بكل تأكيد يبعث على كثير من الراحة، ليس فقط من حيث إشفائه للغليل تجاه غير المسلمين أو تجاه المسلمين «العصاة»، ولكن كذلك من حيث إيجاده تبريرات وتفسيرات لهذه النكبات العشوائية التي هي، رغم كل تفسيراتها العلمية، لا شك تقع أحياناً كثيرة بشكل جزافي بلا مبررات أو مسوغات أو حتى نهايات كاثارتيكية، محملة الإنسان فوق طاقته من حيث قبول لا منطقيتها تلك، ما يتطلب خلق حالة تبريرية أو تفسيرية مريحة لهذه النكبات. واقعية أن نكبات الحياة مثلها، دون معنى حقيقي لها وبلا هدف سام ينهيها، هي واقعية قاسية جداً على عقولنا بدائية التطور.
أحد أقربائي هو مشجع عتيد لكرة القدم، وهو دوماً حين يلعب فريقه مباراة مهمة، يدعو ويترجى الله ويبسمل ويحوقل ويقرأ المعوذات ويصلي على النبي وآله حتى يفوز فريقه، ولطالما بهرتني طريقة تفكيره الظريفة تلك: ما الذي يجعله يعتقد أن الله سيقف مع فريقه ضد الفريق الآخر، كلاهما يتكون من شباب من ذات المنشأ والدين والجلدة، فما الذي سيجعل الرب يتجاوب مع قريبي عن كل الذين يدعون للفريق الآخر؟ خطرتني أدعية وصلوات قريبي وأنا أقرأ فزع الشارع العربي الإسلامي ودعاءه وتفسيراته، لماذا يا ترى لا يزال الشارع العربي الإسلامي يجنح لمثل هذه التفسيرات رغم وجود نظائرها العلمية المنطقية، ورغم أنها تبدو ثأرية طفولية لأبلغ حد؟ ما الذي يدفع بنا إلى الاعتقاد بأن الله هو دوماً في صفنا، فما يقع لنا هو اختبار وما يقع على غيرنا هو انتقام؟ الشارع العام، وأقصد به الشارع بتنوعه بما فيه مثقفوه، يجنح عموماً للمبالغات والعاطفية واللامنطقية، إلا أن هذا التوجه التفسيري للنكبات أصبح أقدم حتى من أن يحتمل التبرير بعاطفية وسذاجة الشارع بعمومه، لقد شاخ هذا التفكير كثيراً حد الفكاهة، تحول كليشيهاً سخيفاً في زمن لا تُفَوِت النكبات فيه أحداً، فما الذي يجعلنا نصر، كعامة، أن الله معنا دوماً، منكوبين أو متفرجين من بعيد؟
أستمع حالياً لعدد من الندوات المسجلة للدكتور خزعل الماجدي حول موضوع الأسطورة، وهي ندوات تستحق المناقشة والتحليل لاحقاً، إلا أن فكرة سيطرة الأسطورة، حتى في وقتنا الحالي، والتي ناقشتها هذه الندوات، بدت -بمناسبة الاعتداد بالإشارات الغيبية السماوية- وكأنها رسالة غيبية تأتيني إبان تفكيري في الموضوع. لن يعجب د. الماجدي ربطي السطحي هذا، فالدكتور يشير إلى أن الأساطير هي مواد محترمة بالنسبة لأصحابها، ولم تكن تحمل المعنى الذي نتداوله حالياً لكونها خرافات، فالفرق بين الأسطورة والخرافة يفترض أن يكون واضحاً تماماً. رغم ذلك، أنا عاجزة عن إزاحة عيني عن الفكرة الأسطورية، لكون الطبيعة تحابي المؤمنين الصادقين، والقابعة خلف تبريراتنا للكوارث الطبيعية والإنسانية ومدى سذاجتها في القالب الذي نصوغها فيه. نحب الأساطير، مريحة، تبريرية، كاثارتيكية، مشكلتها الوحيدة التي لا نريد أن نعترف بها هي أنها غير حقيقية.