كحول

نشر الإعلام فيديو لفتى ينتمي «لأشبال الخلافة»، وهي فرقة تابعة لتنظيم داعش، وهو محوط بفريق شرطة عراقي يحاول تفكيك حزام ناسف من خصره كان ينتوي تفجير نفسه به في مدينة كركوك. انهمرت التعليقات محللة أصول التنظيم وتمويله في إجماع كبير من «الخبراء العرب» وكل الجمهور العربي خبراء، بأن داعش صنعتها مخابرات أجنبية، فهي في الواقع صنيعة غربية لتشويه سمعة المسلمين ولإضفاء الشرعية على التوغل في الشرق الأوسط ولتسبيب الأسباب لإشعال الحروب ولإسقاط أنظمة وإحياء غيرها.
في الواقع أتفق وكثير من التحليلات هذه، ولكن المرعب هو الغياب التام لذكر أي دور عربي اسلامي في خلق هذه الكارثة. لا توجد هناك أي محاسبة داخلية أو تقييم حقيقي لدور التراث والفكر الاسلاميين ولدور مشايخ الدين السابقين والحاليين في تخصيب تربة العنف وريها وتشميسها كذلك.
نعم هناك أصوات عقل متناثرة، ولكن ليس هناك شعور جمعي بالمصدر الداخلي للكارثة، ليست هناك رغبة في تحمل المسؤولية، وهو غياب للرغبة مفهوم ومبرر تماماً. مواجهة النفس دوماً ما تكون مؤلمة، فهي تدفع لمواجهة قطعيات ومسلمات في الحياة مزروعة في الروح والعقل، وانتزاعها وإعادة فحصها وتقييمها هي عملية مؤلمة معذبة. ولكن حتى يطيب الجرح هل من مفر من سكب الكحول عليه؟
صبي صغير، في الرابعة عشرة من عمره، ماذا استخدم التنظيم لإقناعه بتبديد حياته؟ لنقل أن داعش صنيعة غربية، ولنقل إنها مؤامرة من العالم كله للإيقاع بنا، ولو أنه تصور نرجسي مريض في حد ذاته، ولكن، ماذا يستخدم هذا التكوين المؤامراتي لجذب الصغار وتجنيدهم؟ ألا يستخدمون تفاسير شهيرة للنصوص الدينية؟ ألا يستخدمون حججاً وقصصاً تراثية؟ يمتلئ التراث الإسلامي وتاريخه بقصص لشخصيات اسلامية مهمة قتلت أقاربها، أب أو خال أو عم أو أم أو أخت بسبب من «كفرهم» وتلك قصص لها من التأثير الحماسي على الشباب ما يفوق أي محفز آخر تجاه العنف.
طبعاً هنا أنا لا أحكم على هذه الشخصيات ولا حتى أطالب بتغيير القصص التاريخية، ولكن ما هو مهم وعاجل هو إعادة قراءة هذا التراث ووضعه في قالبه التاريخي الذي يبين للشباب أنه لم يعد المقياس الذي به نقيم ونقدر الأمور، فالحال كان غير الحال، والظروف غير الظروف، وحتى التقييم الحقوقي اختلف ومعه الكثير من المبادئ والمثل. فلم يعد حز الرؤوس وسبي النساء مثلاً أدلة شجاعة وإقدام، ولم يعد تفريق السبايا بين المحاربين مكافأة مقبولة، تغير الزمن ومعه حتى المبادئ والتقييم الحقوقي للإنسان.
هذا لا يغير شيئاً من الماضي، ولا حتى يتهم الأسلاف الذين ما كان لهم سوى أن يتصرفوا بحكم العرف والمقبول في ذلك الوقت، الهدف ليس تغيير الماضي ولكن قولبته في زمنه والتوقف عن اعتماده نبراساً للحاضر، فالماضي الذي نحاول جاهدين إحياءه لن يقودنا سوى الى كهف عميق نضيع بين أخاديده، فلا نحن من واقعنا ولا نحن من ماضينا. لا يمكن اليوم الاستدلال بالماضي لإرضاخ العالم للدين الإسلامي مثلاً أو للتفكير في فرض جزية على من لا ينضم تحت لواء الدين، لا يمكن اليوم الاستمرار في تمني دولة خلافة لا يمكن لها أن تكون، ليس فقط لاستحالتها السياسية ولكن لاستحالتها الإنسانية كذلك.
لا يمكن اليوم التشدق بفارس ضرب ضربة عن يمينه فأوقع مئة وضرب ضربة عن يساره فأوقع مئة، تلك قصص نقرأها في التراث والتاريخ، نتعلم منها كيفية قيام الدولة الإسلامية في صباها، نستخلص منها عبراً ودروساً، ولكن لا نقتاد بها في بناء الحاضر، الحاضر الذي سادت فيه مبادئ السلام والحقوق الإنسانية فوق كل مبادئ، وان لم يستتب لها أن تتحقق كاملة بعد.
لينتهي العنف، لا بد أن ينتهي مصدر الإقناع، لا بد من إعادة قراءة التراث، من وضع التفاسير في زمانها ومكانها، من خلق قراءة جديدة وفهم جديد يناسبان زمننا، فيستطيع الصغار أن يستخلصوا العبر من الماضي ويفتخروا بأجزاء منه ولكن لا ينقادون به ولا إليه، الماضي ماض، لا يعود، كما الصغار الذين يقتلهم داعش كل يوم باسم الدين لا يعودون.
نعم، لربما داعش مؤامرة أجنية، لكن التنفيذ، ديني تراثي باحتراف.