نحتاج أن نكون قساة على أنفسنا، فقد وصلنا إلى القاع، دققناه بأقدامنا ولم نصعد بعد، صمت مطبق كأنه ليل طويل، كأنه همّ ثقيل لا ينزاح، تسيل الدماء وتتدحرج حيوات الأبرياء على أرض المصالح الوحشية، والعالم العربي صامت بجنون، متجاهل بجلافة، إعلامه يعمل، يبث الأغاني والمسلسلات والرخيص من البرامج والهابط من المقابلات، ووسائل تواصله الاجتماعية تنشط، يرسل الناس عبرها حكاياهم وأخبارهم، يتبادلون الشتائم وينشرون الإشاعات، يمعنون في التراشق العنصري الطائفي، ويشترون “الكب كيك”، ولكن يتجاهل هذا الإعلام مآسيه الحقيقية تماماً سواء نحو ما يحدث في العراق أو غزة كأكثر مكانين مفجوعين نحن بهما في وقتنا الحالي.
ليست المشكلة حقيقة أن يكون هناك إعلام هابط أو أن يسيء الناس استخدام وسائل التواصل، فالسيئ يجاور الحسن في كل مكان وزمان، المصيبة عندما يغفل إعلامنا وبشكل جماعي كأنه منظم عن مصائبنا الدائرة، عندما يقدمها بألفاظ تقلل من كارثيتها أو بصور تحيدها عن المجرم الحقيقي، ومن يتابع قنوات الأخبار العربية لربما يعي تماماً معنى هذا الكلام. أين هنا حراك الشارع العربي تجاه ما يحدث في غزة مثلاً؟ هل يستوعب الناس قدرات وسائل التواصل الاجتماعي التي يمعنون في استعمالها ليل نهار ومدى فاعليتها، بل قدرتها على تغير المقدرات من حولها؟ كعادتنا نحن العرب نستودر الأشياء والأفكار من الغرب، فإما أن نسيء استخدام ما نستورد أو لا نقدره حق قيمته، أو نشوهه بادعاء خصوصيتنا واختلاف قيمنا.
مرة أخرى، هذه السلبيات كانت لتكون مقبولة لو كان هناك استخدام فاعل حقيقي في الجانب الآخر، إلا أننا بجانب أننا لا ندرك قدرة الوسيلة الإعلامية وقيمتها في أيدينا، نحن نحبط كذلك حتى المحاولات القليلة القادمة من خلالها. إن من يضع صورة للوحشية الإسرائيلية يلام على جرح مشاعر الآخرين، من يحاول الترويج لحملة تكسر مجاديفه، ومن يبث نداءً أو يدعو لتحرك تسخر من محاولاته. يجهل الكثير منا مدى فاعلية الأجهزة الإعلامية، نستوردها لنلعب بها ونبث من خلالها عنصرياتنا ونتبادل في أروقتها الاتهامات والإشاعات، أما أن نوظفها في دورها الحقيقي، فذاك الفعل الوحيد الذي نتجنبه وبكل قوتنا.
أين إعلاميونا؟ أين فنانونا؟ أين الرموز البارزة الشهيرة في الوطن العربي لتقف وتقود حراكاً إعلامياً صارخاً ضد الجرائم التي ترتكب في غزة؟ ها هو كاتب العمود الأسترالي مايك كارلتون يستقيل من جريدة Sydney Morning Herald بعد أن أوقف عن العمل بسبب تغريدة كتبها رداً على تعليقات القراء المعترضة على مقاله حول غزة، وبشتيمة واضحة ومباشرة قال كارلتون للقراء الذين لم يريدوا أن يواجهوا البشاعة الصهيونية: أن يغربوا عن وجهه باللفظة الإنكليزية المعبرة. يوجه الإعلامي الشهير بيرس مورغان رسالة مباشرة عبر “تويتر” لنتنياهو يحمله مسؤولية المجازر البشعة في غزة، ويفتح عليه نار التعليقات وربما ما هو أكثر، حملة بريطانية عبر “تويتر” يغلق الناشطون من خلالها مصنعاً يزود إسرائيل بالأسلحة، وحملة أخرى موجهة لرئيس الوزراء البريطاني لوقف تسليح إسرائيل يستجيب على إثرها نائب رئيس الوزراء البريطاني من خلال حسابه على “تويتر” قائلاً “أعتقد يجب وقف تراخيص تصدير الأسلحة لإسرائيل”، جيريمي بوين مراسل الـ”بي بي سي” في غزة يتم سحبه من موقعه على إثر ذكره في أحد التقارير أنه لم ير دليلاً على استخدام حماس للمدنيين كدروع بشرية، ماكس كيرز مقدم برامج شهير في ذات القناة يترك موقعه على إثر أوامر صارمة منعته من التعرض لإسرائيل، ممثلون وفنانون، أمثال ريهانا، وجوناثان ديم، وسيلينا غوميز، وبينيليبي كروز، وخافيير باردم، يتعرضون لاضطهاد واحتماليات خسارة فادحة بسبب تصريحاتهم ضد جرائم إسرائيل. هذا الحراك الإعلامي القوي، سواء في الجرائد أو على “تويتر” أو غيرهما، هو تحرك بعيد عن مكاننا، ومن أناس لا يشتركون وأهل غزة بشيء سوى ببشريتهم، حراك بعيد متفرق، إلا أن أهمية بعض رموزه وإصرار متحركيه واستمرارهم جعلت منه حراكاً فاعلاً بدأ يقلب الطاولة إعلامياً على إسرائيل، ويفتح العيون الغربية على الوحشية التي زينها الإعلام ذاته ولسنوات طويلة، إنه سلاح العصر، الإعلام ورموزه، يقودون اليوم الحراك ويفعلون التغيير وبسرعة ما كان يمكن تخيلها في السابق.
فأين نحن من كل هذا والقصة في عقر دارنا؟ أين فنانونا؟ مشاهيرنا؟ نجوم البرامج؟ اللامعون من الإذاعيين والمراسلين؟ أين صناع الرأي هؤلاء المؤثرون والقريبون من ملايين المشاهدين والمتابعين؟ أين الحراك التويتري الصارخ والأنستغرامي الفاعل الذي ينقل الحقائق ويشكل الحراكات ويفعل الحملات ويغلق المنشآت ويزلزل الأرض من تحت أقدام المسؤولين؟ الإعلام ووسائل تواصله الاجتماعية هما السلاح الأخطر اليوم، يصنعان جيوشاً مليونية وفي غضون ساعات، يحركان العالم ويحفران الطرق ويغيران مجرى الأمور، فإذا كان غياب الإجابة عن سؤال أين سياسيونا وقياديونا وجيوشنا العربية هو مصيبة، فإن تلاشي إجابة أين إعلامنا وفنانونا ومشاهيرنا هو مصيبة أعظم.