قُلة

كلمة د. عبيد الوسمي يوم 11 مايو 2016 ثم مقابلته القريبة يوم 26 ديسمبر 2016 حملتا الكثير من المعلومات المهمة والرؤى والآراء القوية والمستحقة، حيث أتى فيهما تذكير بالكثير من الأخطاء الفادحة، التي تتعدى في الواقع كونها أخطاء لتصبح تعديات فاضحة على الدستور وقوانين الدولة، والتي من المهم جداً وضعها في المعادلة عند تقييم الوضع اليوم. جاء في كلمة د. الوسمي لمايو إشارة إلى أن الوضع مسرحي في الدولة اليوم، والمشاركة ما هي سوى أخذ دور في هذه المسرحية، وهو ما يرفضه الدكتور، حيث يشير في مقابلته اللاحقة “لا نتعامل مع واقع غير مشروع وبعدين أخلق لنفسي مبررات”.

إلا أن واقع الأمر أننا نتعامل مع واقع غير مشروع منذ أن وُضع الدستور، حيث بدأ من وقتها سن السكاكين لنحره، فمنذ الـتأسيس الأولي للوجه شبه الديمقراطي في الكويت عن طريق تكوين مجلس الأمة وكتابة دستور الدولة، والحرب غير النظيفة شعواء في مواجهتهما، حتى إننا لا نكاد نذكر حقبة شكلت “واقعا مشروعا” تماما للتعامل. من تزوير للانتخابات إلى آخر، من استخدام المال السياسي وشراء أصوات ونقلها والدفع بالفرعيات إلى غيرها من الممارسات، من حل للمجلس إلى آخر، من فضيحة تزوير إلى أخرى، من تعليق للدستور إلى شبيه له (فالتعليقات لهذه الوثيقة كثيرة ومتتابعة وإن لم تكن دائماً ظاهرة بوضوح)، كل هذه الحرب الشعواء، كل هذه السنوات من التعامل مع الواقع غير المشروع، والآن فقط نرفضه ونرفض مبرراته؟

شخصياً الحلول الوسط لا تناسبني، ولذلك لربما لست في الحقل السياسي الذي يتطلب المناورات والتنازلات وأحياناً كثيرة العمل مع الشيطان، ولكنني أعرف كذلك أن السياسة هي فن الممكن، وأن التعصب للحق في مرحلة ما دون غيرها يعطي الموضوع بعداً آخر. مثل الدكتور الوسمي، أشعر أننا نشارك في مسرحية سمجة، نعرف ما في كواليسها ونستمر مع ذلك بأداء أدوارنا على خشبتها، ولذلك قاطعت، ولذلك أضع نفسي في خانة المعارضة المستمرة، وفي موسمي الانتخابات اللذين تلوَا المقاطعة الأولى، كانت الشدة النفسية شديدة، نشارك أم نقاطع؟ ما الذي تغير؟ حكم المحكمة الدستورية؟ التوجه العام؟ وماذا عن المبدأ؟ كنا، وأعتقد أننا ما زلنا، في مرحلة ضياع صنعناها كمقاطعة ومعارضة بأنفسنا، بنظرتنا غير الواقعية، بخلقنا لرموز اقتربت في تقديسنا لها من الآلهة وفي أفعالها من الشياطين. هي هزيمة، الكثير منا غير قادر على الاعتراف بها.

ولترميم الوضع، يقترح الدكتور الدعوة لحوار وطني يشمل القوى والفعاليات السياسية والأطراف الحكومية كذلك. ولكن من المهم حين الدعوة لمثل هذه الخطوة الضخمة قياس مدى فعالية النداء وحجم تأثير المنادين. لماذا تتجاوب الحكومة ونداء مثل هذا من الطرف الأضعف (المقاطعة أو المعارضة)؟ ولماذا تجلس على طاولة مع أشخاص هي تودهم خارج اللعبة السياسية أصلاً ومستعدة تكسر وراهم “قلة” إن هم قرروا المقاطعة والابتعاد؟ من مصلحة الحكومة تحييد هؤلاء وإبعادهم لا جذبهم للمشهد السياسي بالتجاوب ودعوة مثل هذه. وأصلاً، لمَ يتجاوبون ونداء مثل هذا وهم مشاركون الآن تلبية لمفهوم “اللي يتزوج أمي أقول له ياعمي”؟ من المهم حين طرح اقتراحاً ما أن يكون المُقترِح في وضع قوي مؤثر يجبر الآخر على الاستماع إلى المقترح والتعامل معه، لكننا جميعاً كمعارضة ومقاطعة اليوم في الوضع الأضعف، مجموعة بسيطة بقيت غير قادرة على الإقرار بالأمر الواقع وعلى ضرورة التعامل معه من الداخل، فلم تستمع لهذه الحفنة الأقل والأضعف عددياً وسياسياً بقية الحفنات الأقوى في الدولة؟ كيف لمثل هذا الاقتراح أن يكون له وزن حقيقي وفاعل و”القلة” أصلاً كسرت خلفنا نحن جميعاً كمقاطعين، ليس الآن فقط، بل في عز زمن قوتنا إبان المقاطعة الأولى؟

في نهاية مقابلته يقول الدكتور “هي بلوة في الدولة ونحن مضطرين للتعامل معها”، إشارة للوضع الاقتصادي الفاسد في البلد، ومن ذات المنطق نقول هي بلوة سياسية في البلد نحن مضطرين للتعامل معها، وأنا شخصياً غير قادرة على المناورات هذه، أكره اللون الرمادي المنتصِف للألوان، ولكن د. الوسمي سياسي محنك، شارك سابقاً في مجلس أمة له شبهاته كذلك والقائمة منذ إنشاء المجلس وليس حديثاً، مجلس أقر وأقر سابقوه الكثير من القوانين غير الدستورية، فن الممكن هو، التعامل مع المتاح، فما الذي تغير الآن؟ المشاركة والتغيير من الداخل هما الخيار المتاح اليوم خصوصاً في غياب خطة واضحة ممنهجة للطرف المقاطع، أما استمرار المقاطعة والمناداة من المنابر بحوار وطني فهما عز طلب الحكومة، قاطع ونادِ مثل ما تريد ونحن مستمرون في طريقنا هو لسان حال حكومتنا، فإلى متى نتركهم يكسرون “قللهم” على رؤوسنا؟

المقاطعة كانت دجاجة فقست بيضاً سياسياً في ذلك الوقت للجماعات الإسلامية تحديداً، اليوم أصبحت الدجاجة عقيماً، من الطبيعي أن تتجه هذه الجماعات قبلة دجاجة جديدة، هم كذلك منذ أن عرفنا العمل السياسي وعرفناهم فيه، والدكتور شخصياً تعامل مع هذا الوضع الفاسد سابقاً، لا شيء يختلف اليوم. لا بد من حل أكثر واقعية وأكثير قابلية للتنفيذ ليتجاوب الناس، فعلى الرغم من ميلي الشخصي للموقف المتصلب للدكتور، فإنني أعرف أنه لن يجد تجاوباً ولن يحدث خدشاً في مشهد اليوم، فأي خيار آخر متاح؟