أثار ابراهيم عيسى غضبة إسلامية نارية جراء حديثه عن الكتب التراثية التي تسائل واقعة الإسراء والمعراج كواقعة حقيقية مشيراً إلى أن بعض هذه الكتب يصنف هذه القصة على أنها في مصاف المنامات أو الخيالات أو القصص الرمزية ذات العبرة في حين أن أخرى تؤكد وقوعها بالروح والجسد، تماماً كما أثار غضبة نارية بكتابته لنص المسلسل الرائع “فاتن أمل حربي” وإشارته إلى التبعات المأساوية لقانون الأحوال الشخصية المبنية الكثير من جوانبه على القراءات الشرعية وإلى الفساد الذي قد ينخر أحياناً في المؤسسات الإسلامية.
ليس الموضوع موضوع ابراهيم عيسى تحديداً، إنما هو موضوع اللعنة التي تحل على من له رأي في عالمنا الداكن هذا، وما عيسى سوى أحد الأمثلة الحديثة لتلك اللعنة التي تحل على من يكشف المستور وينفض الغبار. ملعون هو عيسى لأنه تكلم عن التراث وفحوى بعض الكتب الإسلامية وملعون هو لأنه تكلم عن واقع الحياة ومآسي تأثرها بالمنظورات الفقهية القديمة، ملعون هو لأنه ناقش الماضي وملعون هو لأنه ساءل الحاضر. الفكرة هي أن لا حق لك في التساؤل أو مناقشة أو الكلام عن تاريخيك الديني كما أن لا حق لك في التألم من حاضرك المتأثر بهذا التاريخ والقراءات الناجمة عنه. أنت تسمع وتقول آمين.
تمتلأ كتب التراث بل والفقه بالمتناقضات الروائية والصراعات الفكرية، وهو وضع طبيعي لأي أيديولوجية تحفر مكانها بعيداً في المجتمع وتستمر حثيثاً عبر الزمن. إلا أن “الكليرجي” الإسلامي المتصدر للمشهد في عمومه تبنى منظور واحد تاريخي وفقهي، لا يريدون لنا أن نرى قيد أنملة خارجه دع عنك مناقشة متناقضاته أو تنوع رواياته. هناك مدارس إسلامية متنوعة، تناقش وتناقض بعضها البعض، وقد يذهب بعضها إلى حدود بعيدة سواءاً في تفسير القرآن أو حتى في الاتفاق على طبيعة النص وماهيته. ذات المدارس لها توجهات فقيه متنوعة وأحياناً متناقضة، وذاتها لها قراءات تاريخية متباينة، لا نعرف عنها نحن سوى بوزها الظاهر فوق مائنا الآسن. أما الجبل الخفي تحته، فهذا غير مسموح لنا بالنظر له عبر المياه الآسنة دع عنك بالغطس إليه واستكشاف جوانبه.
حقيقة الأمر أننا، الشارع العام، لا نعرف سوى ما يريدون “هم” لنا أن نعرف مما في كتب التراث. هناك الكثير الذي هم غير قادرين على تفسيره أو تبريره، وهناك الأكثر مما يخجلون هم من إظهاره، ذلك أنهم يصرون على مثالية كتب التراث “التقليدية”، وكأن كُتَّابها ملائكة وكأن كل ما يذكر فيها محض كمال. هذا المنظور يضع “الكليرجي” الحالي في مأزق التبرير والتفسير والالتفاف والالتواء، ثم حين يصل الحرج والمأزق أشدهما، ينحون إلى الصراخ والتكفير لتكميم الأفواه وإخراس صوت العقل وإغلاق باب الأسئلة التي لا أجوبة عندهم لها.
يسوِّقون هم لتاريخ إسلامي ناصع البياض، في حين أن هذا التاريخ، مثل كل تاريخ بشري آخر، يعج بالسواد ويمتلئ بالدهاليز المظلمة وبالقصص المفزعة. يسوقون هم لتراث نقي لا تشبه شائبة، في حين أن مرور الزمن يطفو بهذه الشوائب على وجه حياتنا وحياتهم، شاؤوا أم أبوا. يسوقون هم لفقه تام كامل لا يحتمل التغيير وعقيدة تامة لا تحتمل التأمل والتفكر، في حين أن الزمن يتصارع بشدة ودموية مع فقههم الجامد ويتصادم بأسئلة الناس الحديثة مع عقيدتهم التي صمموها بقراءاتهم ومنظوراتهم الوحدوية مانعين عنها هواء الفلسفة الذي ينعشها ويحييها. لقد صمموا هم البيت كاملاً على شكل زنزانة كبيرة، من يجرؤ على مساءلة التصميم أو التشكِّي من الضيق أو حتى التعرق أو الاختناق من قلة الهواء، يجلد بسوط العصيان، أما من يجرؤ فيفتح شباكاً أو يوارب باباً، فهذا نقول عليه السلام.
نعم، هناك قصص دينية هي موضع التساؤل بين الواقعية والرمزية اليوم، والتساؤل والتشكك بل والرفض هم جميعاً حق لكل إنسان. في مقابلة مهمة لريتشارد دوكينز مع الأب جورج كوين*، وهو قسيس وعالم فلك ترأس مرصد الفاتيكان لسنوات طويلة وتوفي في 2020، أصر هذا القس الجدلي مثلاً على أن الحياة قد تشكلت عن طريق التطور الدارويني لا الخلق الذكي والذي، أي التطور، كان أداة الخالق في صنع الحياة. أصر هو كذلك على عدم إيمانه بالروح بمعاناها التقليدي كما وأوضح غضبته تجاه من يقول بحرفية قصة آدم وحواء، لأن ذلك يكشف عن “جهل عميق” حسب قوله.
تحدث هو في الأجزاء السبعة من المقابلة عن عدد من كبير من الأمور شديدة الحساسية والجدلية وصولاً إلى دور الرب على الأرض، مدى تدخله في الحياة بعد صنعها، ماهية وجوده وأزليته، معنى وحقيقة معجزاته، إلى آخرها من أمور تبدو مستغربة تماماً من قسيس له مكانة كبيرة ومهمة في الفاتيكان. هل وجدت آراء هذا القس القبول التام في محيطه وفي مجتمعه عموماً؟ بالتأكيد ليس من الشريحة الأكبر من المجتمع المتدين، إلا أن ذلك لم يعني أن حياته تهددت وأن وظيفته وسمعته وأمنه تعلقوا جميعاً في الهواء، بل ربما العكس هو ما حدث من حيث تبوئه لمناصب مهمة وتحصله على اهتمام متسع في الأوساط الأكاديمية.
بالعموم، بقي الجدل، مهما بلغت شدته أو تطرفه، في حيز الحوار، بقي الصراع صراع فكري، واستقرت الآراء المتباينة على الورق وفي المقابلات والنقاشات المتبادلة. لم تنهدم حياة الرجل، لم يخسر وظيفته ولم تتهدد سمعته ولم يشن مجتمعه حملة مغرضة عليه، ذلك لأن يعيش في “غرب كافر” يقدس الحرية ويعشق تبادل الآراء وتباينها وتنوعها وحتى غرابتها، وتلك جميعاً هي ما أنقذت هذا الغرب ذات يوم وصدرته كالحضارة الأولى اليوم.
ليس عندنا. عندنا ينهدم المعبد على رأس من يحرك شفتيه، من يخرج عن الصف، من يفكر خارج الصندوق، بل وحتى من يفتح كتب التراث ويحكي عما فيها. ما لا يريدونه أن ينكشف يبقى طي صفحات كتب أمة لا تقرأ، وإن حدث وقرأ أحدهم، تتدمر حياته في الدنيا ويوعد بالجحيم في الآخرة. تريد أن تكون سالماً؟ ذات ما تفعله مع حكومتك، قدمه لمشايخك، لا تقرأ ولا تسأل ولا تفكر، فقط قل آمين.