«قليل الكلام تخرج بسلام»

جولة سريعة في بلاد الأندلس في هذه الإجازة القصيرة أخذتني إلى ماض، ماض ليس سعيداً، ماض ليس مجيداً، ماض باذخ، ماض مفعم بالملذات والقوة، لكنه لم يكن سعيداً ولا عادلاً ولا مجيداً مطلقاً. من طليطلة إلى إشبيلية إلى قرطبة إلى غرناطة، جاهدت جمالاً أخاذاً سيئ التاريخ، شاهدت عظمة معمارية تذكر أكثر ما تذكر بالتنافس الاستعماري وبعبودية الإنسان لأخيه الإنسان. هذا كله ماض الآن، نتعلم منه، ولا أدري إن كنا نتعلم، لكنه ماض لا يدعو للفخر ولا يسترجي الاعتزاز، ماض مليء بالحروب والغزوات والاستعمار، ماض معجون بملذات أذهبت عقولا وعروشا، ماض دكتاتوري الرحيق وإن كان لذيذه.  

ولا أنكر، منذ الوهلة الأولى وقعت في حب مسجد قرطبة، وصلنا ليلاً فما استطعت انتظاراً، ذهبت أحج حوله، فدرت ودرت حول المبنى العظيم، بيديّ تلمست كل حوائطه الخارجية، تطلعت إلى بنيانه الشاهق وأبوابه المزخرفة، وما إن حلّ الصباح حتى أتيته قفزاً، وبصحبة “دليلة” رائعة، تجولت في ردهاته المهيبة، لم أدع حائطاً إلا واحتضنته، عموداً إلا وقبلته، كنت أحتفي بالفن العظيم لا الماضي الأليم، التحفة المعمارية لا القساوة والعجرفة الإنسانية. شهقت شهقة منكوب وأنا أرى منتصف المسجد وقد أزيلت عواميده الرومانية الأصل، والتي كانت متوافرة في المنطقة من أثر الوجود الروماني القديم، لتحل في قلبه كنيسة شاهقة. الكنيسة جميلة إلا أنها دخيلة احتلالية، ذات بناء تطلب إزالة عدد كبير من الأعمدة ومنع المنظر المهيب لهذا التردد اللانهائي للأقواس، فيقال إنك إذا ما وقفت في منتصف المسجد في ذاك الزمن، كنت تفقد القدرة على تحديد المكان، ولربما الزمان، فتتوه بين أعمدة يشبه الوقوف بينها ذاك بين مرآتين، فتتكرر الصورة إلى ما لا نهاية.

ولقد كان قصر الحمراء الغرناطي هو وجهتي الأساسية من هذه الرحلة، الدخول لهذا القصر يتطلب حجزاً مسبقاً، وعدد زواره مراقب بدقة عن طريق الحواجز الكثيرة التي تتخطاها لتصل إلى قلبه. قاعات أخاذة مزخرفة ومنقوشة توريقاً وتسطيراً، أسقف كما الليل المضيء، مزخرفة بالخشب الملون لتصنع آلافا من النجوم كأنك تقف تحت سماء خلابة، زوايا تعج بالمقرنصات، ترتفع وتنخفض بحسبة رياضية دقيقة تعطيك شعورا باللانهائية، أحواض مائية ضخمة تنعكس فيها الصور المحيطة كاملة فتبدو وكأنها مرايا أرضية هائلة، ممرات مائية رفيعة، “يمرمر” فيها الماء و”يخرخر”، راسماً صورة للجنة “تجري من تحتها الأنهار”، قصر ليس مثل أي قصر آخر، فهو، كما وصفه دليلنا، حرفياً وفعلياً كتاب يتحدث عن نفسه. على كل حوائطه وفي كل جنب من جنباته، يحكي القصر قصته بنفسه شعراً وحِكماً ونثراً رائعاً. عند مدخل قاعة السلطان يقول الحائط الأيمن “من حسن كلامه وجب إكرامه” فيما ينذر الحائط الأيسر “قليل الكلام تخرج بسلام”. يعج القصر بالآيات والقصائد المنقوشة بالذهب المحمر، فيقول القصر واصفاً نفسه على أحد حوائطه “منصبي تاج وبابي مفرق/ يحسد المغرب في المشرق/ والغني بالله أوصاني أن/ أسرع الفتح لفتح يطرق”، وفي موضع آخر يتباهى بنفسه قائلاً “هذه جنة النعيم تجلت/ ليس عنها لساكن من براح/ فنقوشي تبدو كزهر رِياضي/ وبياضي يحكي محيا الصباح”. قصر يتغنى بنفسه، ينذر ويحذر، يرحب ويهلل، يقصد ويتعبد، كل ذلك بزخرفه المتحدث وحوائطه البليغة الكلم.

ثم هناك ساحة الأسود، وآه من ساحة الأسود، عند بياضها توقفت، أنظر لهذه الأسود البيضاء الشامخة، أتخيل الأميرات المحجوبات يتجولن في هذا الجمال، يلمسن الأسود ويشربن من الماء المنبعث من أفواهها، ليس هناك من نظرية مؤكدة حول مهمة هذه الأسود، يقال إنها كانت ساعة وقتية، تخرج المياه من فم الأسد المشير للساعة في ميعادها، إلا أننا لا نعرف اليوم حقيقة وظيفة هذه التماثيل الرخامية الخلابة. هنا رجوت الدليل أن يسمح لي بالاقتراب فرفض، توسلته أن يسمح لي بلمس حروف القصر فحذر وزمجر، طلبت بإصرار أن أصعد للطابق العلوي حيث تسكن الأميرات، فأخبرني أن المكان مغلق، فهو يستقبل مليوني زائر سنوياً، وقد تعدى الآن الحد المسموح، حيث تحدد الزيارة بهذا العدد حفاظاً على أرضية القصر العليا من الخفوق. لا أخفيكم سراً أنني انتهزت هذه الفرصة لأتلمس الكلمات، وتلك لأحتضن الحوائط، حتى إنني تجرأت ودفعت بالسلاسل الحمراء لأدخل أبعد مما يدخل الزائرون في قلب ساحة الأسود. كان دليلنا الإيطالي بليغ الحديث بالعربية يزمجر كلما رأى فعلي، إلا أن حيائي كله تبخر أمام جمال ما رأيت.

كنت أترك كل موقع أزوره بغصّة، لا أدري إن كانت بسبب ما رأيت من جمال، أم ما شهدت من تاريخ، أم ما استشففت من قسوة وجبروت الغابرين، كلها تجمعت غصة، كلها تكالبت دموع، دموع متناقضة، فقد عشقت المكان ونقمت على أهله، أُخذت بالفن واستحيت من جبروت أصحابه، صروح دينية هائلة تتناقض وروح الدين المتواضعة، قصور فنية خلابة، تتناقض وما يتوجب من الحاكم من زهد وورع، تناقضات تبعث على التفكير والتأمل وتستحضر كل الدموع.