لقاء الأمير هاري وزوجته ميغان الذي تم بثه على قناة “سي.بي.أس:” وأدارته المحنكة أوبرا وينفري مهم على أكثر من صعيد، ولربما، في رأيي، لأسباب تختلف تماماً عن تلك الأسباب العامة المتداولة. لا أتصور أن أهمية المقابلة تربض في المعاناة والمصير الشخصيين للأمير وزوجته، فرغم اهتمامي نسوياً بمعاناة ميغان كامرأة في مؤسسة عالية الذكورية، إلا أن القضايا التي ظهرت على سطح المقابلة هي ما تستوجب الانتباه والحوار الحقيقيين.
بالتأكيد هناك دوماً الزاوية المخملية المسيطرة على الموضوع بأكمله لفردين خرجا على شاشات التلفزيون ينعيان حظهما ويشكيان معاناة التقيد بنظم القصور، في حين أن هناك أناس يموتون جوعاً ومرضاً وفاقة حول العالم أجمع، خصوصاً إبان وباء الكورونا الحالي الذي ترك عدد كبير من البشرية مكشوفاً لقسوة الظروف والأقدار. لا أنفي أن هذه الزاوية سيطرت على تفكيري وأنا أشاهد هاري وميغان في ثيابهما الباهظة وهما يجلسان في حديقة خلابة يتحدثان بحرقة عن ظروفهما، كان لابد لي من بذل جهد نفسي كبير لتخطي تأثير هذه المخملية ولتذكير نفسي أن الآلام، في اصطيادها لنفوس البشر، لا تفرق بين غني وفقير.
القضايا المهمة المطروحة من خلال المقابلة واضحة ولربما أشبعها الإعلام نقاشاً: هل مؤسسات الحكم الأوروبية لا تزال تحمل أنفاساً عنصرية؟ هل لازالت الأمراض النفسية تعامل باستخفاف وبلا جدية؟ لا أتصور أن هناك مؤسسة سياسية في العالم أجمع تخلو من العنصرية، لربما يحق القول إنه لا تخلو مؤسسة بشرية في العالم أجمع من العنصرية، ولربما لإحقاق حق أوقع يجب الاعتراف أنه لا يخلو بشر من عنصرية. ميغان هي أول إمرأة “غير بيضاء” تدخل العائلة المالكة البريطانية في العصر الحديث، ولهذا السبب تَلَقّاها المجتمع البريطاني في البداية بإعجاب وبالكثير من البهجة، ناظرين لها على أنها نسمة هواء عليلة في ضباب العائلة المالكة الكثيف. ذلك لا يعني أن كل العنصريات أو على أقل تقدير التحفظات قد اختفت تماماً عند العائلة المالكة، ورغم ذلك أو لربما بسبب ذلك، كان المنتظر استمرار هذه السيدة في منصبها في العائلة متخطية أي عنصريات بصلابة لتستطيع فعلاً أن تجدد الهواء المكتوم، عوضاً عن الشكوى والاستسلام أمام أول تعليق أو موقف عنصري. لو أنها بقيت في منصبها وتحدثت عن موضوع التمييز العرقي لاستطاعت أن تقدم الكثير وأن توسع دائرة الحوار دون أن يتداخل مع هذه الدائرة حوارات أخرى أقل أهمية مثل علاقتها الشخصية بزوجها ومدى تحكمها به وما ستعنيه خطوة انفصالهما عن العائلة تجاه مصير الأمير هاري. لقد تحول الحوار من ذاك الخطير حول التمييزات العنصرية التي لا تزال مستمرة بقوة في أوروبا البيضاء إلى آخر ميلودراماتيكي حول علاقات أسرية أخذ الحديث عنها قالب “السوب أوبرا” النميمي المبالغ به.
المقابلة كذلك أثارت اهتماما حول ادعاء ميغان أنها وصلت لمرحلة التفكير بالانتحار وأن هذه الحالة النفسية الملحة لم تجد صدى جديا لدى مؤسسة الحكم حين أبلغتهم هي بها. من أهم حسنات هذه المقابلة أنها أشعلت حواراً حول المعاناة النفسية عند الكثير من البشر وحول الشعور بالعار تجاه هذه المعاناة، مما يدفع بأعداد كبيرة من الناس لإخفاء هذه المشاعر وتفادي محاولة طلب المساعدة في التعامل معها. كما أن المقابلة أوضحت أن المعاناة النفسية لا تقتصر على فئة معينة من الناس وأنها ليست دليل ضعف أو انهزامية، إنما هي حالة نفسية، وأحياناً كثيرة عضوية، قد تصيب الأفراد من أي فئة، وهي تحتاج للعناية الطبية والالتفات المجتمعي الكبير لها.
إلا أن هناك وجه آخر لهذين الأمرين بالغي الحساسية (التمييز العرقي والمعاناة النفسية)، وجه ظهر على استحياء ودون إفصاح إبان المقابلة وبعدها، ذلك أنه وجه يصعب جداً الحديث عنه لأنه غالباً ما يبدو وجهاً غير متعاطفاً مع الضحية. لقد أثارت المقابلة حوارات خافتة متلازمة مع الحوارات المرتفعة وإن أخذت مقعداً خلفياً لها، وذلك خوفاً من صداها الذي قد يصم أصحابها بالعنصرية أو انعدام التعاطف والتفهم. لقد دارت هذه الحوارات الخافتة، بهدوء ومصحوبة بالكثير من الخوف، حول استحقاقات الطرف الآخر وحول كيفية تأمين عدالة التعامل معه. كيف يمكن ضمان حق المتهم بالعنصرية الدفاع عن نفسه؟ كيف يمكن حمايته من التقول عليه؟ كيف يمكن التفريق بين المرض النفسي الحقيقي وذاك الذي يتم ادعاءه؟ هل يستخدم البعض الأمراض النفسية لتعزيز التعاطف معهم ولتأكيد استحقاق استثناءات في الواجبات والمسؤوليات؟ كيف يمكن الفصل في هذه الأمور دون إيقاع المزيد من الضرر بالضحية ودون استلاب حق المتهم؟
ما أن يتم اتهام شخص بالعنصرية أو بالتلفظ بكلمة لها بعد تمييزي، حتى يوصم هذا الشخص لآخر العمر، تماماً مثلما يوصم المتهم بالتحرش الجنسي بتهمته مثلاً، فهذا اتهام لا مزيل له من دواخل النفوس، بمعنى أنه حتى لو حكمت محكمة بتبرئة المتهم بالعنصرية أو التحرش، يبقى الشك قائماً ملازماً والنفور محتدماً تجاه الشخص المتهم ولو ثبتت براءته. ولقد دار في العالم العربي حديث مطول مؤخراً حول التحرش، حيث انصب جام اهتمامنا على حماية الضحايا والتأكيد على وجوب نيل المجرم أقصى العقوبات الممكنة. إلا أن ما لم نناقشه هو كيفية حماية الطرف الآخر من التجني، وكيفية معالجة موضوع سمعته الملطخة حال إثبات براءته. من ذات المنطلق، والآن وقد اتُهِمت الأسرة البريطانية الحاكمة بالعنصرية، ستبقى هذه التهمة لطخة لن تزيلها كل ما سيقولون ويفعلون ويسوقون من أدلة وبراهين، حيث ستلتقط عيوننا هذه اللطخة كل مرة ننظر فيها للأسرة الحاكمة. كيف إذن، في خضم محاولتنا الحثيثة لحماية ضحايا التحرش أو التمييز العنصري، يمكننا أن نحمي المتهمين كذلك وأن نضمن عدالة محاكماتهم ليس القانونية فقط ولكن المجتمعاتية كذلك؟
أما موضوع المعاناة النفسية، فهو يبدو أكثر تعقيداً. تعاني أعداد كبيرة من البشر نفسياً بصمت بسبب من الخوف من “وصمة المرض” التي قد تعطل حيواتهم وعلاقاتهم بشكل كبير. إلا أن هناك كذلك من بين البشر من يتخذ من المعاناة النفسية ستاراً للأخطاء أو تبريراً للقصور، وهو بذلك يتعدى على حقوق المعانين حقيقة ويقلل من شرعية شكواهم التي لا تلقى الاهتمام الكافي أصلاً من المجتمع. فكيف يمكن البت في حقيقية هذا الجانب؟ لا يوجد ما يثبت حقيقية معاناة ميغان، على سبيل المثال، سوى كلامها، فهل يحق للآخرين التشكيك بما تشعر هي به؟ الكثير من الأمراض النفسية لها مؤشرات جسدية وهرمونية، إلا أن هناك الكثير من الأمراض كذلك بلا أي مؤشرات، فكيف يستوجب التعامل معها؟ كيف نحمي ضحايا الأمراض النفسية من المرض ومن الأحكام المجتمعية القاسية وفي ذات الوقت كيف يمكننا تقييم حقيقية هذا المرض ومدى استحقاق تأثيره على الواجبات والمسؤوليات للشخص المعني وعلى الآخرين المحيطين به؟
إن حماية ضحايا التمييز العنصري وضحايا الأمراض النفسية، وهي الهدف الأول والأهم، لابد أن توازيها حماية لمن هم على الطرف الآخر من المعادلة، والذين غالباً ما يدفعون الثمن بمجرد إطلاق التهمة بالتمييز العنصري أو بإلحاق أضرار نفسية بالآخرين أو بتجاهل أو تهميش معاناتهم. لابد من الوصول لمعادلة تحمي كل الأطراف، وهذه يمكن الوصول لها بفتح باب حوار حقيقي وقوي سيكون هو أفضل حسنات هذه المقابلة “الوثيرة.” أعلم أنني أضمن توصيفاتي أحكاماً مسبقة، ذلك أنني غير قادرة على حجب اندهاشي وانشداهي بهذه المقابلة الميلودرامية وبأداء أوبرا المبالغ به خصوصاً حين مقارنة مصاعب ومتاعب أصحابها بتلك التي للكثير من البشر الأٌقل حظاً في الحياة، والذين يعانون تحديداً من التمييز العنصري ومن الأمراض النفسية دون وجود متنفس أو سند أو ملجأ لهم منها. عسى ألا تهمش هذه المقابلة القضايا المصيرية التي تضمنتها وألا تبوبها في باب القضايا المخملية نظراً لطبيعة الأشخاص المعنيين بها، وعسى أن تفتح المقابلة باب حوار جاد حول التعامل مع هذه “المشاكل البشرية” العصية، لنحولها إلى “قضايا إنسانية” نحكم لها ضمائرنا ووعينا وأخلاقياتنا الحضارية.