أيها الفلك على وشك الرحيل
إن لي في ركبك الساري خليل
رقرقت عيناي لما قال لي حان الوداع
وبكى قلبي مما ذاع في الكون وشاع
غابت الشمس وراء الأفق
ثم ذابت في مسيل الشفق
لهف نفسي كاد يخبو رمقي
حين حياني حبيبي وتبادلنا الوداع
وانطوى منه نصيبي عند تصفيق الشراع
أيها الفلك على وشك المغيب
قف تمهل إن لي فيك حبيب
لا أذوق النوم حتى نلتقي
والضحى يغمر وجه المشرق
فأحييه بقلب شيّق
شارحاً وجدي شاكيا سهدي في الدجى وحدي
وأناجيه بحبي بين ضم واعتناق
ناسياً آلام قلبي طول أيام الفراق
لم يكتب أحد كما كتب أحمد رامي في لوعة الفراق، حيث كبدته أم كلثوم من الأسى والحرمان ما جعله يبدع بحرقة، فيكتب بأنين تكاد تسمعه بين السطور، ولقد كتب رامي الأبيات أعلاه مودعاً أم كلثوم التي كانت في طريقها إلى أوروبا في رحلة طويلة، أبيات تكاد تسمع بحة بكائها، وترى صورها حارقة تتوهج في القلب المكلوم.
لربما لا يعرف طعم الكلمات إلا من ذاق ألم الافتراق، تلك اللحظة التي تتحرك فيها “السفينة” حاملة نصف قلبك، تشعر بها وهي تبتعد تنتزع نصفك انتزاعاً، تمزق أوصال جسدك، ألم يضربك في منتصف صدرك، غيمة تتبدى أمام عينيك، ترتخي عظام ركبتيك ويتهدل ساعداك، فتنطوي على نفسك، لا تدري أطنين رأسك هذا أم أزيز “السفينة”.
“غابت الشمس وراء الأفق” يقول رامي “ثم ذابت في مسيل الشفق”، فكل فراق هو غروب، هو شمس تذوب في أفق لا يمكن الوصول إليه، أفق يصطبغ بحمرة تشعر بحرارتها في ثنايا روحك، فتنتفض حتى “يكاد يخبو رمقك”. لو أن الفراق لم يأتِ بصحبة الوداع، لو أن طقوس الوداع هذه بادت، فيفترق الأحبة دون كلام، دون سلام، دون نظرة شوق ورجفة رجاء.
“ينطوي النصيب” كما قال رامي مع “تصفيق الشراع”، يأخذ الفراق من حظك، من حقك، من سمرك، من كلماتك، من كلماته، من نصيبك في دفء القلب وحنان اليد ولهفة العينين، حين تحين ساعة تبادل التحايا، يذيع الألم في جسدك، يتردد صداه حولك، تضيق الدنيا وتخبو الأنفاس حتى لتصبح “المنايا أمانيا”*. سريعاً، سواد السهاد سيتحلق دوائر تحوط العينين، ووثير الفراش يصبح شوكاً في الجنبين، ولحظة الفراق تتجدد، كلما مرت نسمة هواء، تذكر بالشراع يتمدد، “بالسفينة” تبحر، بنصف قلبك يذوب في الأفق مع الشمس.
“أيها الفلك على وشك الرحيل، إن لي في ركبك الساري خليل”، تسرع به بقسوة جمودك، تنزعه من يدي فتذكرني بفنائي وخلودك، أنا أفنى وحديدك باق، باق ليذيب عين الشمس في الأفق وعين الأحبة في دموع الوداع، يأخذ الفلك من نصيبي فيه، يسامره وقتاً كان لي، يضمه مبعداً يديّ ويلفه حارماً عينيّ، يطوي شراعه حاملا معه حصتي من السعادة، أمّنته إياها بغير اختيار.
هي الدنيا هكذا، لقاء وفراق، والفلك مثل الشمس في إخلاصه، يطوي شراعه كل صباح، ويطلقه حين المغيب حاملاً معه أنصاف الأرواح، مثل الشمس هو الفلك في انضباطه، لا يمهلنا يوماً دون ظهور ولا يرحمنا يوماً دون غياب. أمّنتك نصف الروح يا فلك، فأعده ولو بعد حين، هو كل النصيب، هو إنجاز الدنيا، هو شفيع الآخرة، هو رحمة الخالق، هو من سيوصلني إلى منامي الأخير، فارفق به وأسعده وأطلق شراع العودة بالقريب.
* من قصيدة للمتنبي يقول فيها “كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا * وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا”.