فرت دمعة ساخنة على خدي، هبطت «تهس» على كفي الباردة، فدفنتها بكفي الأخرى وأنا أقاوم أخريات مالحات يتدافعن خروجاً بحرارة وتهور. دموعي في العموم عزيزة، إلا أنها تذل في مواجهة النغمة واللون، فإذا ما استمعت لسمفونية «ضوء القمر» لبيتهوفن غص حلقي وإذا ما ناظرت لوحة «شابتين تجلسان الى البيانو» لرينوار اغرورقت عيناي. أجدها طبيعة الأشياء، أن تذكر اللحظات السعيدة بلحظات الحزن، أن تناظر أوقات الراحة أوقات التعب، أن يستدعي امتلاء اللحظة خواء سابقتها، هكذا هي الدنيا «مجوزة» الأبعاد، لا يمكننا أن نفهم بعداً حتى نختبر نظيره. هذه الثنائية صحبتي الدائمة، ولكنها تتضخم عندما أشهد حدثاً فنياً أو ثقافياً أتوق أشواقاً حارة إليه، فأجدني في روعة اللحظة أقارن بين وفرة فنية خارجية وجوعاً وحرماناً داخلياً، فيختلط فرحي بحزني وتتداخل المتعة بالحرمان تاركة طعماً مراً ليخلف مذاق الفن «الحالي».
وهكذا كان في حفل فيروز يوم الجمعة 8 أكتوبر، حين ترجرجت غصة في حلقي وأنا أستعد لبهجة قلب وعدت نفسي بها منذ علمت بفرصتي في حضور هذا الحفل، هي لحظات الفرح العامرة لا تزدهر إلا على خلفية من أحزان الدنيا… وكيف لا وامتلاء اللحظة فنياً يتضارب بشدة وخواء العمر الممتد، وسعادة الجو الوقتية الزاهية تنحني شعوراً بالذنب لأوقات الآخرين العصيبة… آخرون لا يبتعدون عن موقع الحفل كثيراً… آخرون يعانون جوعاً وحرماناً في مخيماتهم بينما أشبع أنا على كرسيي الباهظ في هذا الحفل المهيب. تبعث فيروز في التناقض اليائس هذا شيئا من الأمل، تسمح للوقوف خارج باب القاعة بالدخول مجاناً في نهاية الحفل ليشاركوا في دقائقه الأخيرة تمييزاً وإشارة منها لهؤلاء الذين ننساهم وتنساهم الدنيا…
«في أمل ايه في أمل
أوقات بيطلع من ملل
وأوقات بيطلع من شي حنين
لحظات تايخفف زعل»
شدت فيروز، فارتفعت الأيادي وترجرجت الحناجر، سالت كلمات الأغاني على ألسنة الحضور، بلهجات متعددة، أغلبها نشاز بدا لي أجمل أصوات الدنيا. تطايرت رائحة البخور ودهن العود في الهواء اللبناني، فتأكدت لي كثافة الحضور الكويتي في الحفل، على يميني ويساري، أمامي وخلفي، كويتيون وكويتيات يحملون عبق الديرة وأصالتها، مصطفين بجمال على المقاعد، يتهامسون لحظتهم بسعادة، يتعاتبون استسلامهم بحزن، يترحمون أيامهم بوله… أو… هذا ما بدا لي. لصيقتي تجلس بنت الصراف، تتطاير خصلاتها الجميلة وهي تهز رأسها تولهاً بالنغم فتذكرني بموج أزرق صاف يتكسر على شاطئ كبّر، على بعد أمتار قليلة من جهة اليمين تجلس بنت البدر، لها ضحكة تشرق في قلبي استكانة شاي وثوب كويتي وأغنية لعوض الدوخي، من بعيد لمحت صديقات أخريات منعني الزحام من الوصول إليهن، فتبادلنا قُبل الهواء مشبعة بسعادة اللحظة، الكويت كلها ها هنا في ثورة ضد موت القلب، في اعتصام ضد نهاية الحلم. تطحنني سعادة ذوباني في هذا الجمع الرائع، يغمرني شعور فائض بالفخر للوجود الكويتي المهيب. تشدو فيروز:
«ما عاد يلمسني حنين
في ماضي منيح بس مضى
صفى بالريح بالفضا»
يتكور الحنين في قلبي وأنا أقارن اليوم بالأمس، أتذكر «فضاوة» هواء الكويت من النغم، هواء مستعمل، مجتر، امتلأ بروائح طائفية صلفة، حتى أصبح غير صالح للاستعمال الآدمي. أنفض الفكرة بإصرار على استرجاع الفرح والأمل، أتعلق بذراع زوجي عله ينقذني من نفسي، غائباً هو بوقاره المعتاد مع النغم، أطالع الهدوء في وجهه، أقترب عله يعديني بشيء منه، أقول لنفسي إنني أستحق فرحة اللحظة، وأصر على روحي أن تقاوم هذا المرض العصابي الذي خلفه الصراع المستمر اليومي مع جفاف الحياة… جفاف يتركني، أستكثر لحظة سعادة صافية على نفسي، فأذكرها بما كان، وما يمكن أن يكون، وما كان سيكون مختلفاً لو أننا… فقط لو أننا.
«وبيضل تذكار عن مشهد صار
في خبز في ملح في رضا
ويومية ليل وبعدو نهار
عمري قدامي عم ينقضى»
تهاجمني مخاوفي… أخشى أن يموت الحنين وتباغتنا شيخوخة القلب ونحن نصارع الساعات على متن الطائرات، نبحث عن «ماض منيح بس مضى»، ننبش في المطارات عن «الرضا» والعمر بين إقلاع وهبوط «عم ينقضى»… ثم أتلفت حولي، أناظر الوجوه الكويتية الساحرة، أستمع لهم يصاحبون فيروز: «في ماظي منيح بس مظى»، تصر «الظاد» صريراً جميلاً في أذني لتميز أهل بلدي، يعود ينمو الأمل، تستقيم السعادة بعد ترنح، يخفت الألم والشعور بالذنب ولو إلى حين، وتبقى الدموع، هي ذاتها تعبر عن الحزن كما تعبر عن الفرح، ويبقى الحزن خلفية للسعادة، وأبقى أنا معلقة على ذراع رفيق الدرب، أنتظر أن يرسو مركبي بينما يهيم قلبي بالرحلة وتفيض عيناي لتغسله من آثارها.