غريبة جداً هذه الدنيا، ليس فيها أي عدالة في التوزيع، تتراكم الثروات والجمال والحظ الطيب في جهة، ليتراكم قبالتها الفقر والقبح والحرمان في الجهة الأخرى، تمتلئ جهة، وتفرغ أخرى، ولأن الفراغ لا يمكن أن يبقى فراغاً، فإنه سرعان ما يمتلئ بالخواء، خواء حتى من الرحمة والإنسانية.
همس لي زوجي ونحن ندخل بصغيرتنا ياسمينة إلى السينما، “يبدو أننا أكبر اثنين في هذه القاعة”، ضحكنا كثيراً ونحن نجلس بجلال أعمارنا وسط صغار جلبهم ولعهم بفرقة “ون دايركشن” ليحضروا فيلماً وثائقياً عن مسيرتهم. بهجة غطت وجه ياسمينة وهي تتابع الفيلم بشوق وتحرك شفتيها بأغاني الفرقة، فرحة غمرت شغاف قلبها الصغير وهي تجلس بين والديها اللذين أحضرتهما للفيلم أسرى رضاها وضحكة وجهها.
أتلفت فأرى الصغيرات، معظمهن يرتدين “تي شيرت” يحمل اسم الفرقة، يتقافزن فوق كراسيهن بهجة وشغفاً، يطير قلبي بمحبتهن، ثم يهبط عند حدود سورية وفلسطين واليمن وليبيا، حيث يرتدي الصغار عصبات رأس تحكي عن الموت والشهادة، حيث يتقافزون، ليس من الفرح ولكن من الفزع، على أصوات ليس الفرق الموسيقية بل فرق الحروب والموت.
سوء توزيع في كل شيء، فما تناله صغيرتي من اهتمام ومحبة مني ووالدها يمكنه أن يوزع على عشرين طفلاً ويفيض، ولكن الخير كله كان من نصيبها، والأسى كله يكمن هناك على أبواب أطفال دمشق. لم أستطع أن أمحو من رأسي هذه الفكرة وأنا أراقب فرحتها، ما أبعد هموم الدنيا عن قلبها وما أقربها من طفلة بعمرها، ولربما تشبهها بذات الشعر المنثور على وجنتيها وذات الأنف المنمنم وذات العينين الكبيرتين الشغوفتين بالحياة، طفلة تقطن إحدى المدن السورية تنتظر صاروخأً يهبط على مدينتها، تلعب معه “الاستغماية” قد تنجح في الهرب منه، وقد يجد طريقه إليها.
لست أدعي أن في مقدوري أن أتداول حواراً سياسياً منطقياً حول أبعاد الضربة المرتقبة على سورية وفيها أطفال في عمر ابنتي، تهتز قلوبهم الآن فزعاً، يفكرون في الموت، تبحلق عيونهم في الفراغ، يتشبثون بأثواب أهاليهم، يبكون فترتجف أجسادهم، أتخيل كل ذلك فيبدو أي نقاش سياسي تافها عديم القيمة؛ ولأنني لا أملك البديل، يبدو أنه لا يحق لي رأياً؛ أتذكر أنني حزنت جداً لضرب بغداد في 2003، نظًرت كثيراً فقلت: لابد من حلول أخرى، لا يمكن أن يكون العنف حلاً، لا يمكن اعتماد مبدأ ضحايا الحرب للخلاص من الطاغية، وعندما واجهت السؤال الذي لا مفر منه: وما الحل البديل؟ لم أمتلك إجابة، فصمتّ بعدها عن النقاش الواقعي، فليس لي في أروقته مكان، وليس لي في رفضه حجة في عالم يعتقد أن موت الأبرياء هو ثمن مستحق في الحروب.
“ماما، أبي أحضر حفلة “ون دايركشن”، بادرها والدها “طبعاً حبيبتي، بس تصير فرصة”، تعلقت ياسمينة فرحة بيميني ويسرى والدها، تمشي وكأنها تطير بفرحتها ووعودنا المستقبلية، نستطيع أن نعدها اليوم بالسعادة والأمان فما هي يا ترى وعود السوريين لصغارهم وهم ينتظرون قصف مدينتهم؟ أيخبرونهم بجمال الجنة؟ أيعدونهم أن يكونوا بجانبهم لحظة يداهمهم الموت؟ أي عذاب هذا؟ أي أسى وأي ظلم في هذه الدنيا؟ كيف وصل الاختيار إلى هذين إما نظام فاشي يعمل على قتلهم ببطء وإما قصف مدوٍّ يقتلهم وأعداءهم بسرعة؟ لمَ لا توجد حلول أخرى في هذا العالم المريض؟
إلا أن الحرب الحقيقية لن تبدأ إلا بعد أن ينتهي القصف، فينتشر الخراب والدمار والأوبئة والجوع، تغلق المدارس وتكتظ المستشفيات وتتلوث الطرقات، ولسخرية الأقدار، فقط عندما تبدأ الحرب الحقيقية، يغادر الإعلام، وتبتعد الأضواء، ويترك الضحايا الذين يعتقد العالم أنه أنقذهم بضربة، ليصارعوا حياة يومية كأنها الموت.
ليس هناك عدل ولا خير في دنيا تتكوّم ثرواتها في شمالها وبؤسها في جنوبها، حتى الرحمة والمحبة والسعادة، حتى براءة الأطفال وشغف قلوبهم، حتى مشاعر الآباء واهتمامهم، كلها من نصيب من هم فوق، أما جنوب الدنيا ففي جفاف مريع، فإلى متى ننتظر المخلص؟ إلى متى نترقب العدل أن يحل دون أن نشدّه من قفاه ونأتي به قسراً إلى رحابنا المغمورة؟ إلى متى ندفع البشر ثمناً لأمان لا نقبضه أبداً؟