في مرحلة الاندفاع الشبابي كنت، كما معظم من هم في مرحلتي، قاسية كثيراً في أحكامي، قطعية الإيمان بها والنظر لها على أنها لا تقبل النقاش أو المساومة. والحقيقة أنني لم أكن أجد المنطقة الرمادية جاذبة بالنسبة لي قط، لم أكن في يوم، وصولاً إلى عمري الحالي، لينة التعامل مع المواقف التي تتعلق بإيمانياتي المبدئية وقواعدي الأخلاقية. وهذه لعمري، عليّ أن أعترف، معضلة كبيرة وخطأ فكري واضح، ذلك أن الدنيا مليئة بالمناطق الرمادية، وإنسانيتنا ملحة الحاجة لليونة في التفهم والتعامل مع تجاربنا الحياتية. والآن، وبعد أن اجتزت النصف الأول من العمر، اكتشفت أن الأصل هو المنطقة الرمادية والاستثناء هو المناطق قطعية اللون، وأن اللون الباهت هو تحديداً لون حيوات معظم النساء اللواتي نادراً ما يستطعن أن يحيين بوضوح تحت ضوء الشمس.
وهكذا، مدفوعات بالرغبة في المحافظة على الأسرة أو راضخات «للتعاليم» المجتمعية أو مجبرات تحت التهديد المجتمعي النفسي والجسدي، تختار الكثير من النساء المنطقة الرمادية كمساحة للحياة وكطريقة للوجود التي توفر شيئاً من الأمان. الكثير من النساء يعشن حيوات باهتة، غير مكتملة الصورة، لأن هذا أفضل ما يكون، ولأن الحصول على المزيد سيتطلب صراعاً قد يهدد استقرارهن وحتى حيواتهن، ولأن خسائر الخروج من هذه الحيوات الباهتة قد تكون فادحة. في عمر سابق، كنت شديدة الأحكام في هذه المواقف، أتوقع من النساء خيارات أقوى وأكثر قطعية وأوضح طيفاً لونياً. إلا أنني، وبعد رحلة حياتية نسائية في الشرق الأوسط، اكتشفت أن الحياة الواضحة ليست لنساء هذا الشرق المسكين؛ فالوضوح عار، والخيارات القطعية أنانية، والسعادة رفاهية ليست من حق النساء، ليس في كل الأوقات وليس تحت كل الظروف.
حين قبلت هذه السيدة البقاء في زواجها رغم اكتشاف خيانات زوجها المتعددة التي اختتمها بالزواج عليها، كنت ناقمة لا متعاطفة. بدت لي هذه المرأة رمزاً للضعف النسائي الذي نحاول محاربته والتغلب عليه لقرون الآن، وأن رضوخها يهدد نضالنا كإناث نولد في عالم ذكوري بحت. كرهت المنطقة الرمادية التي وقفت فيها هذه المرأة، وتجاهلها التام لمغامرات زوجها المستمرة ولوقاحة جهره بها، وتعاملها الهادئ مع طباعه الحادة، وبقاءها الصامت في بيتها، وتصرفها وكأن شيئاً لم يكن. أحياناً في جلساتنا النسائية، كنت أرمي بملحوظة مغلفة بالعمومية أكنها في نيتي لها حول مواضيع القوة والكرامة، إلا أنها كانت دوماً صامتة، تلبس ابتسامة حزينة وتتصرف وكأن الموضوع لا يخصها.
ذات مرة نادرة تكلَّمتْ، قالت إنها عملت حثيثاً لتكوين هذا البيت بعواميده الاقتصادية والاجتماعية، وإنها لن تترك كل «استثماراتها» في المال والأسرة وحتى في سني عمرها لأخرى تحصدها جميعاً. تبين ساعاتها أن أولوياتها قد تغيرت، وأن رجلها لم يعد رجلها، لم يعد هو الأهم في حياتها، حسبت هي خسائرها ومكاسبها وبنت خطتها بعقلانية وانطلقت في التنفيذ. اختارت هذه السيدة منطقة رمادية لتعيش فيها بلا مشاعر، ولتخرج في حيزها بأقل الخسائر. لم أكن قادرة في السابق على أن أرى هذه الزاوية من الحياة، لكن الزمن والتجارب وحكايات النساء أفصحوا عن أن هذه الزاوية هي الأكثر اكتظاظاً بهن، لأنها الأكثر أماناً واستقراراً لهن، وأن لون هذه الزاوية الرمادي أكثر راحة لعيونهن الحزينة، وأن أنصاف الحيوات وأنصاف المشاعر وأنصاف الأجساد التي يعشن بها في هذه الزاوية هي في الغالب أقدار مفروضة، خصوصاً حين تشح الاختيارات وتشح المشاعر ويصبح إنقاذ ما يمكن إنقاذه هو الهدف الأساسي.
مع مرور الزمن وجدتني أحترم تضحية هذه السيدة باختيارها للبقاء مع نصف رجل، تحيا معه نصف حياة بنصف أو بلا مشاعر. فهمت فلسفة اختيارها والفروض التي أرغمتها على هكذا اختيار. والأهم أنني تقبلت فكرة أننا لا يمكن أن نتوحد كنساء في أهدافنا ولا مشاعرنا، فالجراح والإهانات، ما يمكن أن نتحمله وما لا يمكن، تتفاوت من واحدة لأخرى بتفاوت الظروف والقوة النفسية لكل منا ومعطيات حياتها الشخصية والعائلية. ما زلت أرى هذه المرأة تدفع الثمن كل يوم من صحتها وراحتها واستقرارها النفسي، لكنني أتفهم أكثر دوافعها وأقدر وأُجل تضحيتها وأحترم كثيراً قوتها، قوتها في أن تتحمل الكثير من العذابات لتتفادى بعض الخسائر. ما زالت هي تحيا في تلك المنطقة الرمادية المكتظة بالنساء، إلا أنها هادئة رغم حزنها، متصالحة مع نفسها واختياراتها وتضحياتها، إلا أنني ما زلت غير قادرة على مقاومة الفكرة التي تلح عليّ بين الحين والحين: ماذا لو أنها رفضت وقاومت وبدأت حياتها من جديد؟