بخلاف الحديث عن وجود حملة منظمة ضد غير المحجبات منذ خطبة الجمعة التي اتهمتن فيها بالفجور، وبخلاف المقارنة الجدلية القائمة بين نشاط وزارة الأوقاف صاحبة حملة “حجابي به تحلو حياتي” والحملات الدعائية “الفاشينيستية” الأخرى من حيث كون الأولى مؤسسة حكومية تمول من المال العام وتمثل كل أطياف الشعب، والثانية مؤسسة خاصة تمول من ميزانية خاصة، وليست ملزمة بتمثيل الجميع، هناك زاوية أخرى هي الأهم والأضخم والأكثر حدة في الموضوع، والتي يفترض أن تكون محور النقاش الدائر الآن.
فالخلاف الحالي هو في الواقع نتاج لهذا الخلط المؤزم بين ما هو مدني وما هو ديني؛ مما أدى إلى انقسام الشارع بين ذاك الصارخ بمحافظة المجتمع وإسلامية تشريعاته وعليه طبيعية النداء الرسمي الحكومي بالحجاب كأحد فرائض الدين الإسلامي، وبين هذا الصارخ بمدنية الدولة ووجوب حيادية مؤسساتها التي لا يفترض أن تفرق أو تميز على أساس جنس أو أصل أو دين.
في الدولة المدنية الخالصة لا يفترض أن تسوق أجهزة الدولة لتوجه ديني دون آخر، يجب ألا يتم الدفع بمعتقد على حساب معتقد، أو أن يتم التأكيد على منظومة أخلاقية قائمة على عقيدة على أنها الأعلى والأولى في الاتباع، لكن وزارة الأوقاف في دولة الكويت هي كذلك، وزارة أوقاف وشؤون إسلامية، أي أنها وزارة دينية بحتة، وعليه فإنه من المقبول، إن لم يكن من المتوقع بل المطلوب منها، أن تسوق للآراء الإسلامية وأخلاقيات الدين ومنهجياته المختلفة.
هنا حقيقة نجد أن الدولة ضيعت مشيتها، فبين مدنية دستورها القائم على مبادئ حقوق الإنسان وحرية الرأي والعقيدة وبين دينية مؤسساتها القائمة على التمييز بين المسلم وغير المسلم (مثال: وزارة الأوقاف لا تمثل المسيحي الكويتي) بل بين المسلم والمسلم (مثال: منهج التربية الإسلامية لا يمثل سوى المسلم السني الكويتي) ضاعت كل أرضية صلبة حقيقية لحوار مثمر هادف.
لذلك، لا بد من محاولة تحديد نقطة الخلاف: هل هي نقطة خلاف دينية حول وجوب أو عدم وجوب الحجاب، أم هي نقطة خلاف فكرية حول صلاحيات الدولة المدنية؟ إن كانت الأولى فهذا نقاش شبه محسوم عند كبار الفقهاء حتى الآن على الأقل، وعليه فإن وزارة الأوقاف لم تأت بفعل يخرج عن دائرة صلاحياتها الفكرية، ونعم لها صلاحيات فكرية بما أنها وزارة “أيديولوجية” وذلك طبقاً لما ورد على صفحتها الإلكترونية من كون رسالتها هي “ترسيخ قيم الوسطية والأخلاق الإسلامية، ونشر الوعي الديني والثقافي، والعناية بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ورعاية المساجد، وتعزيز الوحدة الوطنية من خلال تنمية الموارد البشرية وفقا لأفضل الممارسات”، أما إذا كانت نقطة الخلاف هي الثانية فإن سفينة النقاش تسير بغير اتجاه رياح المنطق.
الغضبة من أجل المدنية يجب ألا توجه إلى نشاط وزارة الأوقاف الذي لم يخرج فعلياً عن حيز صلاحياتها، هي يجب أن تساءل أصلاً وجود وزارة دينية بنص الرسالة المذكور أعلاه في دولة مدنية، هي تستدعي المطالبة بتغيير طبيعة كل إدارة دينية في كل جهة حكومية لتتحول الى جهة تنظيمية، أو ترك هذا التنظيم الديني لمساجد الدولة مثلاً مع الإشراف الحكومي عليها مراقبة لعدلها وعدم تعارض منهجيتها مع قوانين الدولة، أما القبول بوجود مؤسسة حكومية تنفيذية دينية ثم الغضب من توجهها الديني التمييزي، فهذا ما لا منطقية له.
إن ذات ما ورد في خطبة الجمعة وذات فحوى حملة وزارة الأوقاف يدرسان مراراً وتكراراً لأبنائنا في المدارس، وتلك عينة بسيطة مما ورد في مقرر الصف الثاني عشر: فمن “منع الإسلام الاختلاط بين الرجال والنساء” إلى “بعض مظاهر التقليد الأعمى المقيت… تبرج النساء والافتتان بهن، ولا يخفى على من له أدنى بصر السباق المحموم الذي تتسابقه كثير من النساء لهثاً وراء تقليعات الغرب وركضاً في كشف ما أمرن بستره”، إلى “دعوى الحضارة المعاصرة جعلت المرأة تهان باسم التطور، وتمارس أعمالاً لا تناسب خلقتها الضعيفة، مما جعل بعض النساء عرضة للاختلاط بالرجال… وفتح لها باباً واجهت فيه الكثير من المخاطر النفسية والأخلاقية”، إلى فتنة النساء على أنها “أعظم فتن الدنيا”، إلى انتقاد تأخر النساء في الأسواق، إلى غيرها مما ورد في مقررات الصفوف الأخرى من وجوب لبس الحجاب الكامل وتحريم المصافحة، هذا بخلاف ما يرد باستمرار عن وجوب العداء “للكافر” وعدم الائتمان لليهود والنصارى وغيرها من مادة تمييزية قحة ليس فقط بين النساء والرجال، ولكن بين المسلمين وغير المسلمين وبين الشيعة والسنّة، بل بين السنّة والسنّة بحد ذاتهم.
سنة بعد سنة تُحشى عقول الأبناء بهذه المادة، يُلَقنون أن المرأة مصدر فتنة، أنها ضعيفة عقلياً وجسدياً خصوصاً وقت الحيض والحمل (تم إلغاء هذا الدرس قبل سنة أو اثنتين)، أن الاختلاط بها محرم، أن السماح لها بالتأخر خارج البيت محرم، أن القوامة عليها مفروضة بحكم ضعفها الجسدي والعقلي، وغيرها وغيرها مما يتشبع به الأبناء، فهل من غاضب أو مقاض؟ وما الذي أتته وزارة الأوقاف، سواءً في خطبها أو حملاتها، مخالف كثيراً لما تنتهجه وزارة التربية؟
نعم لابد من المطالبة بإصلاح الفكر الديني وبالدفع لمواءمته مع الفكر الإنساني العصري والمبادئ الحديثة لحقوق الإنسان، ولكن هذا حوار مكانه غير المكان وموقعه غير الموقع. هذه مطالبات لابد لها أن تبقى في الحيز الاجتماعي الثقافي العام لا في حيز سياسي تشريعي، فالتطور الفكري المطلوب لا يمكن أن يتحقق إذا ما كانت السياسة طرفاً في المعادلة. سيتحقق للفكر الديني الإصلاح المطلوب ما إن ينفصل عن عالم السياسة ويتحرر من المصالح والمطامع التي تغرقه، عندها فقط يمكن أن يتحرر العلماء من خوفهم فينطلقون تفسيراً وتحليلاً وكشفاً للوقائع والحقائق التاريخية ودفعاً بالتفسيرات الجديدة والفهم الحديث.
أما أن نُبقي الحيز الديني داخل الحيز السياسي ثم ندعو لإصلاح الخطاب الديني أو تحييد الساحة السياسية، فهذا هو بالضبط النفخ في قربة مقطوعة، ونعم لابد من المطالبة بمدنية الدولة ولكن هذه المطالبة لا تحتمل أنصاف الحلول، مدنية الدولة لابد لها أن تكون مدنية سياسية كاملة شاملة، أي ألا يكون في الدولة مؤسسات حكومية أو تشريعية دينية، وألا تميز الدولة أي دين، ولو كان دين الأغلبية، تشريعياً أو تعليمياً أو مؤسسياً أو إعلامياً. هذه المدنية هي التي تصل بالمجتمعات إلى بر الأمان، وهي التي تحفظها من الصراعات المستمرة والتناقضات المقيتة.
ما فعلت وزارة الأوقاف سوى أن سوقت لمفهوم فكري يعتبر في صميم المنهجية التي تأسست الوزارة عليها، وبأسلوب لين في الواقع هو أهون بكثير مما يرد في مناهج التربية الإسلامية. نحن لسنا دولة مدنية بالمعنى الحقيقي، فالأجهزة الدينية تملأ أركان الدولة الحكومية، ونحن لسنا دولة دينية بحتة، فالمبادئ العلمانية تملأ الدستور والمدنية تصبغ معظم قوانين الدولة، نحن في الواقع نتاج تهجين بين التوجهين، ولذلك سنبقى نتخبط في مشيتنا ونتدحرج بين المتناقضات، لا نحن من حرياتنا ولا نحن من عنصرياتنا، نحن حبيسو برزخ يطالب فيه الناس وزارة الأوقاف والشؤون “الإسلامية” بما فيها مساجدها ومنابر خطبائها بأن تكون “مدنية” التوجه.