كتبت في المقال السابق أستعرض ردود الفعل التويترية تحديداً التي وردت حول رأيي بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام، حيث انقسمت هذه الردود بين النادر الذي ينقد ويختلف أو يتفق بهدوء وعقلانية، والشائع العنيف الذي يبرر لنفسه عنفه اللفظي وتعديه الأخلاقي بحجة “أخلاقية” هدفه، والمتواتر الساخر الذي بدا مائعاً وبلا طعم بسبب تكراره وضحالة فكاهته، وأخيراً التعذيبي نفسياً الذي يهدف من خلال التوصيف المؤذي إلى ليّ ذراع صاحب الرأي سيكولوجياً لقسره على الاستسلام والموافقة على الرأي المقابل.
تصب معظم الردود في حيز عقابية حكم الإعدام وانتقاميته وإشفائه لغليل المتضرر، حيث يركز معظم المؤيدين لعقوبة الإعدام على مشاعر أهل الضحايا وكيف أن الإعدام سيشفي غليلهم ويطفئ نار غضبهم، بل ويقلل من عمليات الثأر في المجتمعات التي تنتشر فيها هذه الظاهرة. إشكالية هذه الحجج تتشكل في كونها تبتعد بمفهوم العقوبة القانونية عن تلك التي يفترض أنها تستهدف تحقيق العدالة وترسيخ الأمن المجتمعي وتهذيب وإصلاح الخارجين عن القواعد الأخلاقية والإنسانية والقانونية إلى تلك التي تنتقم وتشفي الغليل وتعاقب وتُرعب، وهذه كلها لم تكن في يوم أهداف أي قانون مدني يرمي إلى تحقيق العدالة والاستقرار وترسيخ السلوكيات الإنسانية بين أفراد المجتمع.
هناك الكثير من الأسباب الإنسانية والقانونية والمنطقية والعملية التي تجعل من عقوبة الإعدام عقوبة غير متوائمة مطلقاً مع العصر الحالي بمفاهيمه الحقوقية وبمنطقه القانوني وبأهدافه المجتمعية. عقوبة الإعدام عقوبة قطعية نهائية، لا مجال لمراجعة حيثياتها ولا فائدة من ظهور دلائل جديدة حول قضيتها، ذلك أنه لا سبيل لإنهاء العقوبة أو إيقافها بعد وقوعها. وعقوبة الإعدام عقوبة مكلفة على الدولة من حيث إجراءاتها القانونية واللوجيستية، ومن حيث استعداداتها المعداتية والزمنية. هذا، وتتنافى عقوبة الإعدام مع المنطق الإصلاحي للعقوبة القانونية التي يفترض أنها تهدف للإصلاح، وإعادة التأهيل، وترسيخ الشعور بالأمن، والحد من كل مظاهر العنف.
وعقوبة الإعدام، بكل قطعيتها التنفيذية، غالباً ما تكون من نصيب الفقراء أو المهمشين أو الأقليات، ذلك أنهم الأقل حظاً في الحصول على الخدمة القانونية القوية والأكثر نصيباً في الوقوع في المشكلات وارتكاب الجرائم نظراً لظروفهم العصيبة. وعقوبة الإعدام تسلب الحياة من الإنسان، أياً كان هذا الإنسان بخيره أو شره، وهي بذلك تضع قوة قدرية في يد بشر، والذي فرصة صوابه وعدالته أقل بكثير من فرصة خطئه وظلمه. إن أحد أهم قواعد حقوق الإنسان هي المحافظة على الحياة، وعقوبة الإعدام تتصادم وهذا الحق الإنساني بشكل مباشر وبصيغة قانونية تفتح الباب للعنف ليكون جزءاً من منظومة العدالة والقانون.
الموقف المضاد لعقوبة الإعدام لا يعني بأي حال عدم التعاطف مع المجني عليهم وعائلاتهم، ولا يتجاهل عذابات الآخرين ومعاناتهم، إلا أن المنطق القانوني لا يقول، في الزمن المعاصر، بمعاملة “العين بالعين” التي قد تترك المجتمع كاملاً، كما أشار غاندي، مع تحفظي على شخصه، أعمى. يفترض بالعقوبة القانونية ألا تكون ضغائنية وألا تكون ثأرية وألا تعامل المجرم بالمثل، فالإجرام لا يمكن الاقتداء به في العقوبة ولا اتخاذه مثلاً حين تطبيق القانون. كما أن العقوبة لا يفترض أن تكون تأثرية تنفيسية، وإلا ستنهدم المنظومة القانونية برمتها ويتحول عالمنا إلى غابة يتم تنفيذ الثأر فيها قانونياً وبأحكام المحاكم المدنية.
ولعقوبة الإعدام آثار نفسية شديدة كذلك على المجتمع ككل وليس فقط على المعني بالحكم وعائلته. هناك دراسات وتقارير نَشَرت بعضها على تويتر، تشير إلى أن عقوبة الإعدام تشجع بشكل عام على العنف بتأييدها لأعلى درجات العنف، سلب الحياة، كوسيلة عقاب. تشير بعض الدراسات كذلك إلى أن المجتمع الذي تطبق فيه عقوبات الإعدام لا تقل فيه الجريمة، بل وتشير بعض التقارير، لربما غير الموثقة تماماً، إلى أن نسبها قد ترتفع في هذه المجتمعات. في العموم، ليس الخوف من العقوبة هو الرادع الأول للجريمة، إنما الرادع يتشكل بإعادة التأهيل المجتمعي وبترسيخ وسائل الراحة فيه وبتأسيس نظام عادل ديموقراطي آمن للناس للعيش في ظله، وبالتأكيد المستمر على نبذ العنف وتبني أساليب التواصل المسالم من الحكومات قبل الشعوب.
يبقى أن الاستشكالية الشرعية في إلغاء عقوبة الإعدام مهمة بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، وهذه يمكن التغلب عليها بإعادة القراءة والتفسير تماماً كما تم التغلب على غيرها من العقوبات، كقطع اليد والرجم، والتي يتفق الأغلبية العظمى على أنها عقوبات عنيفة، وعلى استبدالها بالعقوبات المدنية الحالية. إن إعادة القراءة لمحاولة الوصول لمواءمة عصرية ليست بغريبة على الدراسات الشرعية، إلغاء ملك اليمين مثالاً، ذلك أن الإصرار على الإبقاء على قداسة الأحكام القديمة سيدخلنا في متاهة حقوقية وعصرية وعملية لا مخرج منها، بل ولا تتقبل مخرجاتها المجتمعات الإسلامية بحد ذاتها.
ستنتهي هذه العقوبة في يوم ما، إن آجلاً أو عاجلاً، وسيتبنى معظم المسلمين صحة إلغائها كما يساندون اليوم إلغاء العبودية وعقوبات قطع اليد والرجم، وسيتقبلون فكرة إشكاليتها كما تقبلوا بل وانكبوا على الوسائل التكنولوجية الحديثة التي كانت قبل سنوات قليلة ضرباً من ضروب الشرك والخروج عن الدين. وستتغير أفكار أخرى أشد “خطورة” بالنسبة للمسلمين من الإعدام، وسيتبنون توجهها المعاصر ويعتذرون عن إيذاءاتها ويحيلون الصرامة السابقة لزمنها ولأفكاره ولعدم فهمهم الصحيح للنص الديني. وهكذا هي الدائرة تدور بين كل عقد وعقد وقرن وقرن، الدنيا تسبقنا ونلحق نحن بعد زمن… معتذرين مبررين.