في أمل

مددت رجلي ومططت يدي مستمتعة بجلوسي على أول كرسي في الطائرة، كرسي لا أتحصل عليه كثيراً، تاركة لأطرافي أن تستلقي بإهمال في هذا الكرسي المتسع، وفجأة أطل صاحب الدعوة والدافع للكرسي، فتصلب ظهري وانكمشت أطرافي وأنا أراه يبتسم بجدية، ويأخذ مكانه في الكرسي بجانبي. الآن ماذا؟ ماذا لو نطقت شيئاً خاطئاً بالعربية؟ أو في محاولتي لبدء محادثة، أبديت رأياً ساذجاً في شاعر؟ قلت السكوت أسلم، لكن، لم يكن هذا المكتوب، وكانت ثلاث ساعات لا تنسى.

دعت مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري لفيفاً من أساتذة الجامعة والسياسيين والفنانين والصحافيين لحضور ندوة بعنوان “الحوار العربي الأوروبي في القرن الحادي والعشرين… نحو رؤية مشتركة”، وقد كانت ثلاثة أيام غنية جداً بالحوارات المختلفة التي جددت أفكاري لأكتشف مساحات جديدة يمكن لعقلي أن يخوض فيها، ففي حين استمعت إلى الساسة العرب وهم يقدمون المألوف ويكررون المعروف، استمتعت بحديث الساسة الأوروبيين، وهم، على الرغم من أنهم يبقون ساسة، إلا أن حديثهم يخرج عن الطراز المنمق القديم، يقرون بالمشاكل ولا يخشون اعترافاً بالنواقص، لا يقدمون بلادهم على أنها جنة الله في الأرض، ولا ينكرون أدوارهم في مشاكل المجتمع العربي.

وقد كان لحديث الرئيس البرتغالي الأسبق جورجي سامبايو أكبر الأثر، وهو يحكي عن الديمقراطية التي لا تأتي بمقاس واحد، والتي لا تتجلى في إسقاط الحكومات وفي الانتخابات وفي تنقيح الدساتير فقط، فالديمقراطية، حسب قوله، “تحتاج إلى البناء والعناية بالمؤسسات، مثل القضاء المستقل والصحافة الحرة، وكذلك، وبكل تأكيد، اقتصاد مؤهل فاعل”. كما تحدث عن الإسلاميين كونهم جزءاً من المجتمع لا يمكن إغفاله كما لا يمكن تغيير منطقه، بمعنى، لن يكون الإسلاميون في يوم علمانيين، وعليه فإن التحدي الذي يواجههم هو “إعادة صياغة مركزية الإسلام في حياتهم في قالب يكون أكثر ديمقراطية وانفتاحاً وواقعية في المساحة السياسية”.

وقد جاورني الحظ في جلوس الدكتور الذي تكرمه المؤسسة في آخر ليلة على العشاء في الكرسي الذي بجانبي، وهو البروفيسور ابراهام شلايم، اليهودي الإسرائيلي المعادي للصهيونية، لأتعلم من حديثه عن الكيفية الحقيقية التي تفصل فيها الحق الذي في عقلك عن مشاعرك وعن تصرفاتك وعن انتمائك الجذري. وقد كان لوجود الدكتور خالد المذكور وحرمه أطيب الأثر وأوقع التمثيل لرجل الدين المسلم وزوجه، فلم تتنح ابتسامته عن شفتيه لحظة، بشوشاً مرحباً بالجميع، مستمعاً أكثر منه معلقاً، وأما السيدة حرمه فلم أعرف سيدة بهذا التواضع وجمال القلب، فقد أقبلت هي ترحب بي في المطار فور وصولنا، وكلما صادفتني في الفندق، بشت في وجهي وابتسمت برقة تذيب الصخر وفتحت حواراً يقرب القلوب ويرغبها في صحبتها. لقد كان اختيار المتحدثين والحضور والشخصية المكرمة لهذه الندوة بحد ذاته تصريحاً بليغاً من المؤسسة باتجاه تعايش الأديان واعلاء منطق الإنسانية والتعالي الثقافي على الخلافات السياسية.

وكان مسك الختام على الطائرة، حين جلس الأستاذ عبدالعزيز البابطين، أبو سعود، بجانبي ليحكي لي تاريخاً تجلى لمعة في عينيه ورقرقة في صوته. حكى عن البداية، عن المعاناة وعن الأمل. “يبدو أن الله كتب لي أن تكون بدايتي في مكتبة ونهاية أيامي في مكتبة كذلك”، قالها باعتزاز وإيمان ألجما لساني. سألته عن مداخيل مشاريعه الثقافية: المكتبة، والندوات، والمقاعد الدراسية المختلفة التي يتبنونها في الجامعات، فأخبرني ببساطة أن المدخول هو رضا النفس وتأدية لدور يعلم في دخيلته أنه خُلق من أجله. هكذا أتت الإجابة بسيطة وسريعة ودون تكلف. حكى عن عشقه للشعر وحبه للكتب وحلمه الذي تجلى في مكتبة البابطين، وأنا أسر لنفسي، إنه حلم ومثالية وجنون شاعر، وحدها لها أن تجعله يتبنى مشروعاً كهذا، يستثمر فيه في عقول الناس استثماراً لا مردود مباشراً له، استثماراً مضنياً مكلفاً، استثماراً مثالياً يبتعد عن الواقعية وينحرف إلى أهداف لا يتخيلها سواه، شاعر حالم حلمه عاقل في عالم مجنون.

تركنا الطائرة وأنا أحمل أملاً أكثر عمّا كنت أحمل صعوداً إليها، إذا كانت مثالية التفكير وجنون التنفيذ لايزالان موجودين إلى اليوم، فلا بد للخلاص أن يكون قادماً، مع كل كتاب، مع كل بيت شعر، مع كل ندوة، مع كل محاولة صغيرة أو كبيرة، شيء صغير قد يتغير، لتتراكم قطرات التغيير وتصبح البحر الذي يحمل سفينتنا إلى بر الأمان، فشكراً أبا سعود، وشكراً لـ”مؤسسة البابطين” دعوة كريمة وحفاوة بالغة وأملاً متجدداً.