فيل

حياتنا كلها معاناة وخوف وقلق وغياب طمأنينة، في هذه البقعة من الأرض، في الأوسط من شرقها وحيثما كنت من هذه البقعة، على أرض نفطية أو نهرية، في صحراء أو مروج، في غنى أو في فقر، أنت تعاني وتقلق وتشتاق الطمأنينة، طبعاً المسألة نسبية، فعلى اقتراب هذه البقع وشديد تجاورها إلا أن مقدار المعاناة يختلف من منطقة لأخرى، ولكن في النهاية تبقى المنطقة كلها موبوءة، في تلاصق بقعها مصيبة وفي تلاقي مصائبها مصيبة أكبر.

لربما حالنا معقولة ها هنا، فليس لدينا سوى ما لدى غيرنا من البسيط المعتاد، شوية ضرب على شوية اعتقالات على حبة عمل مخابرات على ذرة فعل مباحث، يعني المعتاد من أمور الشرق الأوسط، لا أكثر ولا أقل، إلا أن الأيام الأخيرة شهدت تصعيداً غريباً، خطوة متقدمة لبث الخوف وتغييب الطمأنينة الشحيحة أصلاً، قلق جديد يضاف فوق كومة همومنا، وهو وإن اختلف في الدرجة، لا يختلف في النوعية، قلق ينبثق من غياب الوضوح ومن التفرد في القرار، قلق يحضر عندما ينعزل القضاء ويبتعد القانون، وتغيب المنهجية المؤسسية، وتصبح القرارات الحكومية السلطوية لا قانون يحكمها ولا قضاء يبتّ فيها، هكذا وبكل بساطة، تسحب هوية إنسان، بقرار لا راد لقوته ولا محاسب لصحته ولا حتى فرصة للاحتكام حول عدله.

ليست الهوية عطية من الدولة أو حكومتها، ليست الهوية مادة عقابية تمنعها عن صاحبها إذا ما أرادت تلقينه درساً، الهوية حق إنساني خالص، يبقى لصاحبه مهما كبر ذنبه، وتبقى قوانين الدولة ومحاكمها هي المنوط بها تقدير الجرائم ومعاقبتها وفقاً للقوانين المدنية، فتهمة الإنسان مهما كبرت لا تسقط عنه انتماءه، لا تخرجه من بيئته، جرة قلم لا تجعل الإنسان كويتياً أو غير كويتي، إنها حياة كاملة، عمر وعائلة وامتداد وارتباط، فكيف يلغى كل ذلك بقرار لا حكم قضائياً يسنده ولا محاكمة تقيم أوده؟

حتى من أسقطت عنهم الجنسية بادعاء التزوير، ذنب من هذا؟ من ذاك الذي مرر وغضّ البصر؟ وإن لم يفعل، فمن ذاك الذي أهمل وتجاهل؟ مشكلتنا أننا نتكلم عن كل شيء، إلا ذاك الفيل الرابض في الغرفة، يملؤها ويحجب الهواء، نريد أن نتجاهله وهو يسدّ علينا كل المنافذ. ليست القضية اليوم قضية تزوير ولا تقويض أمن بلد ولا حتى قلب نظام حكم، القضية قضية قانون جنسية مرتخي العضلات مفكك الجوانب، القضية قضية شمولية في الرأي وانفراد في القرارات المصيرية، القضية قضية تعسف وتخويف وترويع، القضية قضية وساطات ومحسوبيات نتجرع مرارها لاحقاً، القضية قضية رسائل، الواحدة تلو الأخرى، تقول لنا شيئاً لا نود أن نسمعه.

إن ما حدث مؤخراً من سحب لعدد من جنسيات المواطنين لم يسلبهم هوياتهم وانتماءاتهم فقط، بل هو تصرف سلب معه كل بقايا للشعور بالأمان، فكلنا في الواقع على كف عفريت “السيادية”، تمنّ علينا أو تحرمنا الهوية.  إن هذا الحرمان الأخير من الهويات ما هو إلا رسالة بين عدة رسائل توجهها لنا حكوماتنا المتعاقبة ومنذ زمن، أولها أتت مع أحداث العنف التي طالت الناس في ديوان الحربش وسقط على إثرها الدكتور الوسمي مهاناً على الأرض تحت هراوات الشرطة، تبعها عدد من الأحداث “التأديبية” في كل اعتصام، من بينها تلك التي خرج بها بكل سلمية الكويتيون البدون ليليها اعتقالات عشوائية للشباب إما من أرض الاعتصام أو لاحقاً من أي مكان يوجدون فيه، تلا ذلك اعتقالات على الأرض الإلكترونية التي لا يملكها أحد أساساً، فاعتقل المغردون، وتوالت عليهم القضايا، وصدرت عليهم الأحكام، تلا ذلك منع نشرات أخبار وبعض البرامج السياسية ثم إغلاق صحف وقنوات تلفزيونية، وصولاً إلى سحب جنسيات المواطنين، أفلم تصل الرسائل بعد؟

أن تغلق الحكومة صحيفة وتهدم قناة وتجرد رئيسها من مواطنيته ليس كل ذلك إلا دليلاً على أنها لا تتحمل النقد، وأن لا تتحمله يعني أنها لا تملك رداً عليه، ولأنها لا تملك الرد ولا تحج الحجة بمثلها، تستخدم عضلاتها السيادية فتشمع بالشمع الأحمر، ليس فقط المؤسسات ولكن الحياة والمستقبل بأكملهما. مهما اعتقدت الحكومة الإعلام “فاسداً” ومهما ارتأت الأشخاص متآمرين، فلن يضر البلد هذا الفساد وذاك التآمر مثلما سيضرها تعنّت الحكومة وتعسفها وإغلاقها للأفواه، فمقابل كل فيه تكمّمه الحكومة سيفغر لها مئة، فما أنتم فاعلون؟ فما المنع والتكميم والإغلاق كلها إلا علامات ضعف وضياع حجة وتراكم أسرار لا تريدون لنا أن نعرفها، فإلى متى تسرقون من البلد سمعته ومنا الأمان؟ إلى متى؟