فيل

انتهت الانتخابات الكويتية قبل أيام بوصول عدد من الشباب إلى مجلس الأمة وسقوط عدد من الرموز المخضرمة السابقة في سباق متوتر مشتعل. لم ولن أتحدث كثيراً حول هذه الانتخابات بحكم كوني مقاطعة سابقة ومعارضة حالية قُسرت بسبب من الظروف التأزيمية للمشاركة في تصويت ما عاد يبدو تغييرياً في ظل التدخلات الحكومية والتحكم المستمر في البرلمان والتفعيل الدائم للمال السياسي في العملية الانتخابية، وفي ظل غياب العمل السياسي الحقيقي الذي يتحقق من خلال وجود أحزاب سياسية فاعلة مقنن لها. وما بين ابتعاد سلبي أو مشاركة سلبية، اخترت أنا ما بدا لي أهون السلبين.
ما أود الحديث عنه انطلاقاً من نتائج الانتخابات الكويتية ووصولاً إلى الساحة السياسية العربية العامة هو الغياب الفاحش للدور النسائي فيها، حيث لم يحالف الحظ سوى امرأة واحدة في الانتخابات الكويتية، ولا يحالف الحظ أو المنطق أو العدالة المرأة العربية عموماً على الساحة السياسية العربية إلا فيما ندر. المثير في الموضوع أن غياب الفرص هذا موعَز للمرأة وليس للرجل، الأصوات الانتخابية الكويتية أغلبها نسائية، فالصوت النسائي حقيقة هو المحدد الأخير للنتائج، كما وأن عدد النساء العربيات عموماً أكبر وفعاليتهن على الساحة العملية أقوى، فالقوة الوظيفية في أغلب الدول العربية هي حقيقة نسائية. كيف تخسر المرأة إذن، كيف تتدنى حظوظها في مراكز صنع القرار، في مجتمعات أغلبيتها العددية من بنات جنسها وقواها العملية من سواعدهن؟
هي بالتأكيد حالة من فقدان الثقة صنعتها العادات والتقاليد والمفاهيم الدينية التي تبث وباستمرار صوراً لضعف و»تخلخل» المرأة عاطفياً، التي تصور المرأة على أنها مخلوق يصعب التعامل معه، تصعب الثقة فيه، يصعب الاعتماد عليه. بالطبع، تلك ليست ظاهرة مقتصرة على المجتمع العربي، فهذا التحيز وتلك النظرة الدونية هما نتاج تاريخ إنساني طويل من القمع والتعنصر ضد المرأة، طمست خلاله أدوارها وإمكانيتها، ورُبطت هي في مساره بأغلال بيتية قبل وبعد زواجها، ومُسحت في سرده آثارها الحقيقية ووجودها الأدبي والفني والعلمي فيه. إلا أن الإنسانية المتحضرة بدأت ترى اليوم الكينونة الإنسانية للمرأة بفهم تام لحقيقة أنها لا تختلف عن تلك التي للرجل من حيث تركيبها العقلي وقدراتها التفكيرية وإمكانياتها الفنية والأدبية والعلمية وفاعليتها في القيادة وصنع القرار. اليوم تحتل المرأة مراكز قيادية متقدمة في العديد من دول العالم المتحضرة، الا أنها لا تزال تزحف زحفاً بطيئاً مضنياً في عالمنا الذي يقدس القوة الجسدية ويعبد الفحولة وينبهر بالعضلات في زمن احتل فيه العلم والعقل محل القوة الجسدية، في وقت ما عاد فيه «الذكر» هو الأهم لأنه القادر على أن يحمي كهفه ويخطف أنثاه ويصطاد طعامه. اليوم وصلت البشرية إلى مرحلة أصبحت فيها الأمم تتباهي بقواها العقلية، فيما نحن لا نزال نرزح تحت فكرة قوة الجسد والتي بمنطقها البدائي المضحك يمكن لها أن تجعل من الفيل مثلاً مخلوقا أفضل من الإنسان.
هكذا هو عالمنا، فيه تضع العادات والتقاليد المرأة تحت أحمال من الأعباء المضنية والتي، لسبب يفوت العقل والمنطق، لا يفكر الأغلبية بوجوب اشتراك الرجل وعلى قدم المساواة في حملها. الرجل الذي يأكل ويشرب وينجب الأولاد ويبدل ملابسه المتسخة وينام في فراشه النظيف، هذا الإنسان الذي يستخدم بيته بكامل خدماته، لم لا يتحمل مسؤولياته بالنصيفة بما أنه يستخدم بيته بالنصيفة وفي الغالب بأكثر من ذلك؟ كما وتأتي المفاهيم الدينية لتضع المرأة تحت أحمال من الأفكار المضنية التي تجعل منها «ناقصة عقل ودين» وتؤسس لعاطفيتها المفرطة وتحجم من الثقة فيها بمثل الحاجة لشهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد وتعمق فكرة دورها الأسري بوضع الجنة تحت أقدامها كونها «أماً»، كل تلك المفاهيم تجد التحاماً مع المفاهيم التقاليدية لتضع المرأة في صندوق حديدي يمنعها ليس فقط عن العالم، بل حتى عن رؤية بنات جنسها.
إنها لحالة مثيرة للإعجاب رغم شرها المفرط، كيف يستطيع المجتمع الإنساني العنصري أن يقنع إنساناً أنه أقل من واقعه، أن يقسره على الإيمان بأنه فقير القدرة محتاجاً للوصاية والرعاية. في مرحلة ما أقنع المجتمع البشري العنصري العبيد مثلاً أنهم يستحقون عبوديتهم وأن واجبهم الديني يحتم عليهم الانصياع لها. وفي مرحلة أخرى أقنع المجتمع ذاته السود مثلاً على أنهم أصحاب قدرات عقلية أقل بسبب لون بشرتهم. وفي مراحل متعددة أقنع هذا المجتمع جماعات بشرية مختلفة بأنها أقل قدرة وذكاء بسبب من نوعية دمائها أو جنسها أو عرقها. في كل هذه المراحل يستخدم المجتمع العنصري الخطاب الديني أحياناً والعلم أحياناً وكلاهما غالباً لإقناع المقموع بقمعه وإلزامه موقعه المتدني. والآن، وبعد أن انكشفت غمة الكثير من هذه الجماعات المقموعة، وبعد أن اكتشفنا المؤامرة، حان أوان إنقاذ أحد أواخر الأقليات الاجتماعية (على الرغم من أنها أغلبية عددية) من براثن القمع واحتقار الذات، حان وقت إخبارها أن ما يستخدم ضدها هي خطة قديمة غابرة، كل ما تحتاجه هو أن تهشها بيديها لتقشع غبارها وترى شمس نفسها الحقيقية، وكم ستحب نفسها وتجلها عندما تراها.