عائدة من مشوار متوجهة نحو باب بيتي لأجده معلقا فوقه، يدق كاسرا حروفا مزخرفة جميلة حملت اسم عائلته الذي بقي معلقا أعلى باب بيتنا لفترة من الزمن. ابتسمت عارفة جواب سؤالي الذي سأسأل: ماذا تفعل معلقا بين السماء والأرض؟ أزيل حروف اسمي لأعلق مكانه حروف اسمينا على باب بيتنا.. انظري إلى الحروف الجديدة، أتحبينها؟ سألني وهو يرد ابتسامتي بأعذب منها. علقت عيناي به، ماذا أقول له؟ نعم أحبها كلها، هذه القطع السيراميكية المزخرفة التي تحمل حروف اسمينا، أحب كل قطعة صغيرة منها.. أحب أنك اخترتها.. أحب أنك لففتها بعناية وحملتها في حقيبة سفرك، وأحب أنك فاجأتني بها لترفعها أعلى باب بيتنا إعلانا ليس لاسمَي المالكَين الذين هما نحن، ولكن ثورة على السائد، واحتجاجا على التمييز، ورفضا لأقلّ صور التفرقة الجنسية أهمية، ولفتا للانتباه: اسم الرجل منفردا على باب بيت العائلة. لم أطلب منه رفع اسمي لصق اسمه في يوم، لم أنتبه إلى أن الحروف التي على باب بيتي ليست حروفي، أليست هي كذلك؟ ألم يتوحد اسمانا كما اختلطت دماؤنا وجيناتنا وسنواتنا وأفراحنا وأحزاننا وأفكارنا ومشاعرنا؟ ألم تعد حروفه تتهجى اسمي وحروفي اسمه؟ اسم أو اسمان، شخص أو شخصان، فالقلب واحد، والعقل واحد، والسنوات توحدت على طريق مشيناه، فطارت متسارعة كما تطير كل الأشياء الرائعة. إذن، فأي اختلاف يراه هو وهو معلق بين السماء والأرض؟ أي حروف يريد أن يصلح، وأي أسماء يريد أن يعلن؟
أي إيمان بهذا الحق والعدل والمساواة يدفعك لأن تتنازل عن سلطة سلمتك إياها الحياة والمجتمع والقوانين والدين دون قيد أو شرط؟
أين تريدين الملاكين؟ سألني وهو لا يزال معلقا على السلم المعدني، وقد حمل ملاكين برونزيين بين يديه كنت قد اقتنيتهما في أثناء إحدى الرحلات لأزين بهما باب بيتنا. على يمين اسمينا ويسارهما، قلت له وعيناي لا تزالان معلقتين به: ترى كيف يفكر هذا الرجل؟ كيف يقطع الحق من نفسه وما طالبه به أحد؟ ما الذي يجعلك تأخذ طريق الحق والعدل والمساواة واحترام حقوق الآخر المشارك لك في الحياة وإنسانيته حتى وأنت في المركز الأقوى سياسيا واجتماعيا ودينيا؟ أي إيمان بهذا الحق والعدل والمساواة يدفعك لأن تتنازل عن سلطة سلمتك إياها الحياة والمجتمع والقوانين والدين دون قيد أو شرط؟ غريب هو هذا الرجل المعلق بين السماء والأرض، غريب في صدقه وهدوئه وراحته التامة مع أفكاره وإيمانياته، رجل فوق المخاوف من كلام الناس، إنسان مرتاح تماما لأنه واضح تماما، لا تناقض بين داخله وخارجه، لا تعارض بين أقواله وأفعاله، لا تنافر بين إيمانياته وقراراته، حياة فوق مستوى الشبهات.
لم يلحظ تعلق عينيّ وغياب انتباهتي، بقي يحكي عن يومه ويدردش عن حكاياه وهو لا يزال معلقا، يكسر حرفا ويلصق آخر، ليشكل خطوة بخطوة اسمينا متلاصقين متجاورين أعلى باب البيت. فكرت، ألا يدرك هذا الرجل اختلافه؟ هل يعرف أنه يبذل أكثر من المطلوب منه في هذا المجتمع؟ هل يدري بأنه يمكن أن يستحوذ على أكثر بكثير لو ترك نفسه ليكون شرقيا في مجتمع شرقي؟ يتصرف بأريحية وعفوية من لا يعرف فضل تصرفاته وقراراته، وهذا ما يجعل كل ما يقوله ويأتيه ذا نكهة فائضة وفضل أعمق وجميل أشد وقعا وأثقل حملا. نعم، يقر حقا لا مفاضلة فيه، ويمارس مساواة واحتراما من المفترض أن يكونا بدهيين، إلا أن لحق المرأة في هذا الزمان والمكان، بل في كل زمان ومكان، عليه كل المفاضلات ولم يتخذ قط موقع البدهيات، كان لإقراره بالبدهي فضل تجاهي بصفتي شريكة حياة، ولكن ليس هذا فحسب، بل تأكيد على نوعيته الأخلاقية والإنسانية التي تحول بها إلى هذا الإنسان الذي يحيا بلا تناقضات، بلا تعديات أو اعتداءات، وبراحة تامة ورضا تام، وقناعات لا يهزها كلام ناس أو حكم مجتمع أو رأي كاهن.
هل يتوسط اسمانا الملاكين؟ سألني. نعم، الاسمان في الوسط والملاكين يحرسانهما على خط مستقيم يسر الناظرين، هلا هبطت من سلمك هذا؟ ناشدته أنا.
لم يهبط وعيناي تبقيان معلقتين، هما دوما معلقتان إلى الأعلى عندما يكون هو مادة رؤيتهما، أتمتم وأبسمل وأحوقل كما كانت جدتي تفعل حين تناظر جدي، أسأل الأقدار رحمتها، أترجاها أن تترك لي هذا الرجل ليكون هو آخر ما ترتفع إليه عيناي قبل أن تغلقا إلى الأبد، فهل سترحمني الأقدار؟