في حوارات متبادلة لنا كمعلمين في أنحاء العالم العربي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، تبين لنا أننا لا نعاني فقط من ذات المعضلات الأخلاقية كمؤسسات تعليمية متكاملة من معلمين وطلبة، والتي سبق أن تناولت موضوعها في مقال بعنوان “متلازمة نفسية”، إنما اتضح كذلك أننا نفكر أحياناً في ذات الحلول الساذجة ونتحصل على ذات ردود الأفعال والنتائج المتوقعة الفارغة.
في عالمنا العربي، أنشطة القراءة والكتابة والبحث والتحصيل العلميين، لا تدخل كلها ضمن أي نطاق أخلاقي، أقصد لا ينظر لها على أنها تتحمل الكثير من القيود المبدئية. لا ينظر لنشاط القراءة مثلاً على أنه نشاط أخلاقي رفيع لا تكتمل العملية الدراسية بدونه، دع عنك حياة الإنسان كلها، مما يجعل من عملية القراءة مجرد وسيلة ثقيلة لعبور المقرر الدراسي. وعليه، إذا كان بالإمكان تحقيق هذا العبور دون الاضطرار للقراءة، مثل مثلاً عن طريق الاستعانة بالملخصات الانترنتية أو المساعدات الخارجية، فإن تفادي هذا النشاط هو كل الهدف. أما الكتابة فهي لا ترقى في عالمنا العربي لأن تكون عمل جاد يستحق مقابل. لا يمكن أن تشكل مهنة الكتابة مثلاً مهنة قوية ذات مدخول ثابت للفرد العربي، على عكس الغرب الذين توفر لهم مهنة الكتابة مداخيل قوية، لهم ولأجيالهم من بعدهم، فالكثير من الأعمال الكلاسيكية التي لا تزال تطبع توفر مداخيل ثابتة لأحفاد أحفاد الكتاب الكلاسيكيين.
من ناحية أخرى، لا يوجد لدينا في عالمنا العربي موقف صلب من مفهوم السرقة الأدبية، حيث أنه لا ينظر لعملية “الاقتباس الحر” على أنها عملية غير أخلاقية. المفهوم العام للسرقة يتطلب فقد شيء مادي محسوس، أما الفكرة فلا قيمة فعلية أو تصور محسوس لها عندنا وعليه فإن “ادعاءها” لا يشكل خطيئة أخلاقية أو عبء ضمائري على المدعي. في الواقع، ذات هذا الشخص الذي قد يشتري بحثاً أو يسرق امتحاناً أو ينسب كتابات غيره لنفسه، تجده يتورع جداً عن مد يده لمال غيره. في ذهن هذا الشخص، تلك سرقة واضحة لا ضبابية فيها، أما “أخذ” فكرة من كتاب، هذه القيمة المجردة التي لا مقابل مادي لها في ذهن الفرد، يبقى هذا الفعل كذلك، مجرد “أخذ” أو “نقل”، لا يتعداهما إلى فعل السرقة ولا يدخل في حيز الخطيئة الأخلاقية التي يمكن للخالق أن يحاسب عليها.
إذا ما أمعنا التفكير في هذه الجزيئة ستبدو فكاهية فعلاً حد الكآبة. الرب في أذهاننا معني بتقييم “تكنيكيات” الدين، مدى الالتزام بالصلاة والصيام والوضوء وأركان الحج، هذه هي حدود التقييمات الإلهية في أذهاننا، أما الأمور الدنيوية فلا نتصورها قابلة للتقييم. ذات حوار بيني وبين قريبة لي حول مرشح من أقربائنا كان يخوض الانتخابات، أقرت هي أنها ستصوت له رغم قناعتها بعدم أهليته، وحين سألتها أن “ألا تخشين الله في ذلك؟” جاء ردها حرفياً: “وما علاقة الله بالموضوع؟” لقد أتى الرد حقيقياً صافياً فعلاً، ففي ذهنها لا ارتباط حقيقي بين الرب والانتخابات. التقييم الإلهي قد ينال مدى دقة مسح الساعدين والقدمين أثناء الوضوء، مدى الالتزام بمواقيت الصلاة، أما التصويت لمرشح أو الالتزام بوقت العمل أو الاجتهاد في الدراسة أو تحرى حقوق الملكية الفكرية، كل تلك أمور حياتية، في أذهان الناس الرب لا يقيمها ولا علاقة حقيقية له بها. لطالما استدعت هذه المفارقة سؤالاً ملحاً في ذهني: إذا كان الناس قادرين على الفصل بين الديني والدنيوي فيما يخص ممارساتهم اليومية، لم يقاوموا التباعد بين الحيزيين في التقييمات والتشكيلات السياسية؟ لماذا فكرة فصل الحيز الديني عن الحيز السياسي عصية على الوعي العام فيم الناس تمارسها حقيقة تجاه قراراتهم الدنيوية اليومية؟
بعد قرابة الستة شهور من التدريس الإلكتروني بالنسبة لي، ولربما ضعف هذه المدة لبعض المعلمين في بعض الدول العربية الأخرى، وبعد شهور من الوعظ والنصح والتذكير بالقيم الأخلاقية والأمانات العلمية، أستطيع أن أقول بكل أريحية أن عملية الغش أصبحت أكثر صعوبة في الاكتشاف وأكثر مهارة في الأداء وأعلى تقنية في الممارسة وأسرع توقيتاً في الوقوع. بمعنى، لم يحدث أي تراجع في نسب الغش والسرقات العلمية والأدبية، ما حدث هو أن ممارسي هذه الأفعال أصبحوا أفضل وأكثر قدرة وسرعة على أدائها وأكثر حذاقة في إخفائها.
وبصراحة، لهم كل الحق. طلبة صغار، كبروا في مجتمعات ترعى مفاهيم أقصر الطرق، والغايات التي تبرر الوسائل، والفهلوة، وأسرع النتائج بأقل الجهود، كل هذه يتم تحقيقها بالوسائط التي تغرق فيها شعوبنا، خصوصاً في منطقتنا الخليجية التي تحيا على عشائرية قديمة مبنية على قوة العلاقات وكمية المعارف ووطادة أواصر الدم والنسب، لنأتي نحن من أبراجنا المرتفعة ونحكي عن أخلاق ومبادئ وأمانة علمية ورصانة بحث؟ دون أي مواربة أو مبالغة، هذا التوجه منا كمعلمين فيه تعال ما بعده تعال. إذا كان طلبتنا، ومنذ المراحل الأولى من تعليمهم، محرومين من التدريب على القراءة، معزولين عن التدريب المهاراتي الحقيقي للكتابة، مدفوعين في طرق معبدة من التلقين اللفظي والنقل المعلوماتي، ممنوعين من التفكير النقدي والتقييم الحر، محرومين الشعور بقداسة عملية التحصيل العلمي، فكيف نتعالى عليهم بمحاضرات أخلاقية وتوجيهات مبدئية ونحن لم نحمهم أصلاً في المراحل الأولى حيث التأسيس والترسيخ؟ هل فعلاً “كلمتين” إبان المحاضرة حول ضرورة تحري الأمانة العلمية كقيمة ومبدأ أخلاقيين، أو “جملتين” تربطان غضب الله ورضاه بالإخلاص في العمل، أو صفر أو صفرين ينالهما الطالب تقييماً لامتحان أو واجب، قادرة، بعضها أو كلها، على إيقاف ممارسة تأسست منذ الصغر واستمرت لاثنتي عشر سنة على أقل تقييم؟ هل هو عقلاني أو منطقي أن نطلب من طالب حُرم التأسيس العلمي ومُنح كل التسهيلات الملتوية للوصول إلى المقعد الدراسي الجامعي لأن، فجأة، يتلاحق كل ما فاته من تأسيسات علمية ويلتزم بكل ما لم يتعوده من أساليب علمية وأكاديمية أخلاقية؟ ما هو مؤكد هو استحالة تحول البشر عن الطريق الذي ينتهجونه لسنوات طويلة في صحوة ضميرية وأكاديمية مفاجئة. هذه حياة حقيقية وليست فيلم عربي ساذج، ينتهي فيه المشهد الأخير بانتصار الخير رغم حداثته واندحار الشر رغم استمراره طوال الفيلم، لتأتي النهاية مصحوبة بصوت جهوري عميق يقول “إنما السعادة في الوفاء.” هذه الطفرات الأخلاقية نادراً ما تحدث في الحياة الحقيقية.
بعد هذه السنوات من التدريس المباشر، وهذه الشهور من التدريس عن بعد، أعترف أن كل موعظة قدمتها لطلبتي هي في حقيقتها مخملية خاوية غير واقعية وغير قابلة للتطبيق. إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع، ولكي تصبح القيمة الأخلاقية في حيز المستطاع، هناك الكثير الذي يجب عمله، وهناك جيلين أو ثلاث لابد أن يمروا بعملية فلترة، منهم جيلي بالتأكيد، لنصل إلى المشهد الأخير القابل للتصديق.