أنت هناك، يا من تسكن أحد مدن الريف الفرنسي.. فلسطين قضيتك. وأنت هناك، يا من تتمشى في مكسيكو سيتي، حيث قامت لك حضارة الآزتك العظيمة.. فلسطين قضيتك. وأنت هناك، في كيوتو العاصمة القديمة لليابان وفي ووهاون المدينة المكلومة في الصين وفي موسكو قلب روسيا وفي ملبورن روح أستراليا.. فلسطين قضيتك، فلسطين قضية العالم أجمع.
وفلسطين قضية العالم أجمع، هي جملة قد تحسب عاطفياً عليّ، إلا أنها في الواقع منطقية وعقلانية إذا ما حسبناها بعقولنا، وهي حقوقية وإنسانية إذا ما حسبناها بضمائرنا، لذا هي مستحقة على البشر بمجملهم. وليست القضية الفلسطينية في ذلك مختلفة نوعاً عن بقية القضايا الحقوقية: قضية الروهنغا مستحقة على العالم أجمع، المأساة السورية مستحقة على العالم أجمع، الكوارث اللبنانية في رقبة العالم أجمع، المعاناة الجنوب إفريقية، المأساة الحدودية المكسيكية الأمريكية، المعاناة الإسلامية في شرق آسيا، المعاناة القبطية في مصر، الصراعات الطائفية الشرق أوسطية، كلها مصابات في رقابنا جميعاً، نتحمل مسؤوليتها مجملاً، إما مساهمة أو سكوتاً، فمن يسكت عن الحق الإنساني هو مباشرة في فريق الضد حيث لا منطقة حياد في ملعب الكوارث الإنسانية.
الا أن القضية الفلسطينية مختلفة كماً: من حيث «كمية» زمنها و»كمية» وضوح العنف والعسكرة الاحتلالية في روايتها. مئة سنة والفلسطينيون يموتون أحياء، ينجبون شابات وشباناً محتسبينهم عند الله شهداء وهم في أرحام أمهاتهم. مئة سنة والفلسطينيون يحاربون وحدهم، بأجسادهم وحجارتهم أمام الدبابات والبنادق والأسلحة الحديثة. مئة سنة لا تصارعهم الآلات العسكرية والتحالفات السياسية العالمية والتخاذلات العربية والدولية فقط، بل يحاربهم كذلك وبقوة أكبر الإعلام العالمي، حيث يسوق للكذبة التي يريد بالقوة التي يريد، وحيث كان ولا يزال يستخدم جملاً إخبارية مثل: «قُتل ثلاثة إسرائيليين ومات مئة فلسطيني»، وكأن هؤلاء الفلسطينيين ماتوا صدفة.. عرضاً، بسبب حادثة خارج نطاق السيطرة.
الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو آخر أوضح الاحتلالات العسكرية في العالم المتحضر الحديث. فلسطين تعيش احتلالاً «كولونياً» بكل ما للكلمة من معنى، بجيوش وأسلحة وحواجز جدارية وقواطع سلكية شائكة مكهربة، وجنود مدججين على الحدود يفتشون بكل أساليب الإهانة أصحاب البلد العابرين بين المدن. الفلسطينيون يعيشون الانفصال بكل ما للكلمة من معنى، انفصال العوائل بعضها عن بعض، انقساماً بين المدن، ومن منا ينسى مشهد العائلات وهي تتخاطب صراخاً عبر الحدود؟ الفلسطينيون يعيشون الاستيطان بكل ما للكلمة من معنى، حيث البيوت تسرق في وضح النهار حتى لا يبقى منها سوى مفاتيح فضية معلقة في حبال تهترئ كل بضع سنوات على الصدور، حبال نعلم كلنا أنها تبات وتصحو على أجساد الفلسطينيات اللواتي يلتصقن بها حتى وهن يستحممن بماء لم يستطع أن يغسل رداءة الزمن. الفلسطينيون يعيشون الإهانة والتعذيب بكل ما للكلمة من معنى وهم يرون المسجد الأقصى، هذا الحلم السهل الممتنع، محاط بالمسلحين وممنوع عليهم، ومسموح للمستعمرين الذين يطأونه بالأحذية ويسفكون فيه الدماء، ويمتهنون من خلال ممارساتهم فيه عقيدة المسلمين ودينهم. الفلسطينيون يعيشون الظلم والقهر بكل ما للكلمة من معنى، من خلال شباب وشابات يُعتقلون في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع، ويُرمون في السجون ويقضون الجزء الأبهى من حيواتهم وهم يذبلون خلف حوائط سجون الاستعمار القاهرة. الاحتلال الإسرائيلي ماشي بالورقة والقلم، ينفذ حرفياً ما يفعله المستعمر المتوحش التقليدي: يضرب ويهين ويقتل ويعتقل ويبنى المستوطنات ويفرق الأسر ويُخْلي البيوت من أهلها ويسرق الأرض والعرض والعمر، إنه الاستعمار «الأصلي»، في أكثر صوره وضوحاً وكلاسيكية و… بشاعة.
الحق الديني في الأرض ليس موقع نقاش، فلو عدنا بالتاريخ للحق الديني فلن ننتهي سوى إلى تقتيل بعضنا بعضاً إلى ما لا نهاية. الدول المدنية لا تبنى على أساس استحقاقات دينية، إنما على أساس قواعد مدنية معاصرة، الزمن والاقتصاد وامتلاك الأرض والاستقرار المدني التاريخي الحديث كلها جزء منها. لذا، الاستحقاق اليهودي ليس عاملاً هنا، كما أن الاستحقاق الإسلامي ليس الدافع الأساسي للدفاع عن القضية الفلسطينية.
القبول بمنطق القوي الذي يأكل الضعيف، وبأن الاحتلال أصبح أمراً واقعاً غير قابل للمقاومة أو التغيير.. هو أخطر ما يمكن أن تثبته البشرية على نفسها في تاريخها الدموي الطويل. القبول بالاحتلال الإسرائيلي سيوعز بالقبول باحتلالات مستقبلية قادمة ستستند على المنطلقات والمبررات ذاتها. إذا دارت الدوائر، وهي حتماً ودائماً تدور، ستأتي القضية الفلسطينية من عمق التاريخ لترقد سكيناً في خاصرة الساكتين والقابلين والراضخين اليوم. التاريخ لا ينسى، أصحاب القضية لن ينسوا، وأصحاب الضمائر لن ينسوا، سنتذكر وسنشمت وسنسخر ذات يوم ونحن نذكر سهاة اليوم بأن الدائرة دارت وأن دورهم قد حان. لكننا لن نتخلى عنهم كما تخلوا، المبدأ لا يحتمل المعاملة بالمثل.
فلسطين قضية الإنسانية كلها..