لطالما أثبت التاريخ البشري أن إيمان وتمسك البشر بالأيديولوجيا يمكن أن يصل إلى مرحلة توردهم لا مبالاة و»بلادة» متضادة وطبيعتهم الفطرية. طبيعي أن يأنف الإنسان السوي من القتل، ولكن إذا أملت عليه أيديولوجيته قتل الآخرين من أجل «الفكرة»، سيفعل مفاخراً. طبيعي أن يتألم الإنسان السوي لعذابات ومعاناة الأطفال، ولكن إذا بررت له أيديولوجيته، سيشارك في التعذيب راضياً. طبيعي أن يفزع جنسنا كله من عملية الإبادة الجماعية المستمرة الآن في غزة، والتي معظم حصادها أطفال بعضهم لم ير الدنيا بعد ليغادروها وهم في أرحام أمهاتهم، ولكن الاختلاف مع أيديولوجية حماس أوردت البعض بلادة تصل حد الحقارة ولا مبالاة تصل حد الوضاعة تجاه تلك السجادة الطاهرة من أجساد الأطفال التي غطت أرض غزة كلها.
تكره حماس؟ لا بأس، لم يطلب أحد منك أن ترتبط بهم نسباً، لا يريدونك هم في حد ذاتهم لا صديقاً ولا نسيباً. ترفض أيديولوجيتهم، «وماله»، أغلبية جيدة منا تختلف وأيديولوجيتهم وتتذكر لهم مواقف مرفوضة تماماً. تتصادم وقراراتهم السياسية العسكرية… عظيم، لا بد من التصادم والقرارات السياسية العسكرية، فواقع الحال يقول إنه لا يوجد بالمعنى الحرفي قرار سياسي أو عسكري جيد، كل قرار من هذه القرارات مكلف، له بعد غير أخلاقي، وفي الغالب ملوث بالدماء. أعضاء حماس عسكر، كما أعضاء حزب الله، وكما أعضاء أي حزب سياسي بذراع عسكرية، لا يصلحون للحكم، لا يفهمون الديموقراطية، وبعيدون تماماً عن المفاهيم القيمية العليا التي هي حقيقة «رفاهية» الشعوب المرتاحة المستقرة.
وعليه، وإلى أن يصبح الشعب الفلسطيني شعباً مرتاحاً ومستقراً، لا يمكن أن نحاكم حماس كما نحاكم أي حزب سياسي عسكري آخر، لا يمكن أن نقيم أيديولوجيته ولا أن نزن اختياراته، كما نفعل مع أحزاب الدول «طبيعية» الوضع السياسي والأممي. حماس الآن مقاومة، ومقاومة مشروعة، يجب علينا جميعاً مساندة جهودها النضالية، بما أننا لا نقدم أي جهود، واحترام خياراتها المقاوماتية، بما أننا لا نقدم أي خيارات، وأن نكف عن التلعثم كلما حاصرنا سؤال: هل تدينون «خماس»؟ لا يا «خبيبي»، لا ندين حماس، فعلى الرغم من أن العدو النجس لم يترك لها خيارات عدة، حماس لا ترتكب مجازر مدنية في الإسرائيليين المحتلين، وفي ذلك تحتاج قصة 7 أكتوبر لكثير من الإيضاحات؛ فهي قصة سرعان ما استغل ضبابيتها الصهاينة ليروجوا لـ «مذبحة» غير حقيقية ما زلنا لا نعرف الكثير من تفاصيلها. بلا شك، مقتل المدنيين هو دائماً كارثة إنسانية، لكن وضع الداخل الفلسطيني يشهد بتحويل إسرائيل الصهيونية لمدنييها إلى مقاتلين بصورة أو بأخرى، وما إحلال الإسرائيليين في بيوت الفلسطينيين العريقة قهراً وفي وضح النار، كما حدث في حي الشيخ جراح ومئات المستوطنات من قبله، سوى صورة من صور وضع المدنيين الإسرائيليين على خط النار واستخدامهم كدروع بشرية، بصورة مطابقة لما يدعيه العدو الصهيوني كذباً وبهتاناً على الفلسطينيين.
وعلى الرغم من كل ذلك، يبقى مفهوماً أن يكون لك موقفاً من حماس، أن ترفض أيديولوجيتهم وسياستهم وتحركاتهم العسكرية، وأن تجدهم جزءاً من المشكلة لا الحل رغم غطرسة هكذا حكم دون أن تقدم أنت شيئاً بالمقابل، ولكن أن توعز مجازر المدنيين تلك لهم وتصنف الإبادة الجماعية على أنها رد فعل متوقع تجاه «مصاب الإسرائيليين» فأنت بلا شك مريض خُلُقياً. أن تتخفف نفسك من ألم مشاهدة مذابح الأطفال وأن تتبلد أحاسيسك تجاه صرخات استغاثة المدفونين تحت الركام فلا تقول كلمة، بل وأحياناً تقولها رخيصة في لوم الضحايا، ألّا تشارك رفضاً ولا تعلي مطالبة على الأقل بوقف إطلاق النار، وهي مطالبة مخزية بحد ذاتها في ضآلتها أمام المشهد المريع، وألّا تسمي الأشياء بمسمياته، فتقلب الحقيقة ليصبح الإرهابي مدافعاً عن نفسه والضحية إرهابية خطرة، وألا تحزن داخلياً بسبب كل هذا الموت العشوائي، وألا تتوجع نفسياً على أطفال دفنوا جماعياً تحت الركام أو قضوا على أرضيات المستشفيات المهجورة الباردة أو فقدوا أطرافاً وأصيبوا بإعاقات ستصاحبهم مدى حياتهم المهددة أصلاً أو تزلزلوا نفسياً إلى درجة سترمي جيلاً كاملاً من هؤلاء الأطفال في جحيم حياة معذبة إلى آخر العمر… ألا تستطيع شيئاً من ذلك، فأنت وروحك بلا شك في بقعة وحشية ساقطة مظلمة من هذه الحياة. أنت… تحتاج إلى مساعدة.
قل حقاً تاريخياً ومدنياً، قل تواصلاً إنسانياً، قل رحمة وتعاطفاً مع أكبر نكبات الزمن الحديث، قل مطالبة بإيقاف إطلاق النار ومحاسبة مجرمي الحرب البشعين الذي جعلوا هتلر يبدو مبتدئ الفاشية، قل حياة الأطفال مقدسة، قل أمن وسلامة المدنيين ملزمة، قل المستشفيات والمباني المدنية ومواقع الإنقاذ والصحافة كلها لا بد أن تخرج خارج نطاق وحشية الانتقام مهما بلغ رخصه وسفالته، قل إن الصغار الذين ولدوا أيتاماً والأهالي الذين أضحوا ثكلي، كل ذلك في غضون أيام قليلة، قد أحدثوا بك وجعاً، قل إن الستة آلاف طفل، ستة آلاف طفل يا عالم، يا بشر، المختفين الآن تحت الأرض هم ثروة بشرية مهدرة جسدياً ونفسياً وأخلاقياً، والأهم هم اختبار للإنسانية رسبنا كلنا فيه، قل إنك تشعر شيئاً، قل إنك حزين، خجل، منكوب، مفجوع، قل شيئاً يثبت أنك إنسان من الداخل، قل شيئاً يدل على أنك لحم ودم لا آلة باردة صلدة، قل شيئاً يطهرك وإن لم تستطع فابلع لسانك، وأخرس صوتك، واتركنا نسمع النحيب، لعله يطهرنا نحن من رجس موقفك.