فعلت شيئاً صحيحاً

نجحت مرات في تحرير طلال وفشلت أخريات من خلال تلقينه، ولكن اليوم، بعد أن مرت السنوات فاستوى فتىً يافعاً رائعاً، أرى نتاج هذه المرات القليلة التي تخليت فيها عن أنانيتي، أرى حصيلة إيماني بحرية العقل، وجلال التساؤل، وكمال الشك، وروعة البحث.

قبل يومين جلست وفرحتي الأولى، طلال ابني البكر، نتحاور في مواضيع لو علمت بها وزارة الإعلام لأغلقت بيتنا وشمّعت بابه بالشمع الأحمر، ومن بين الحديث كنت أحكيه عن قصور الخيال البشري الذي لا يستطيع أن يتصور شكلاً للحياة خارج المنظومة البيولوجية المعروفة على سطح الأرض، فدوماً ما نتخيل نحن أي حياة خارجية (مخلوقات فضائية) على شاكلة بيولوجية بشرية أو قريبة منها: لها أطراف أربع وعينان وغيرها من التكوينات البيولوجية المعروفة على سطح الأرض. لا نستطيع نحن أن نتخيل حياة بشكل مختلف، بقالب أو حتى مفهوم مختلف، فذلك خارج حدود قدراتنا الخيالية التي تصور كل وجود على شاكلتنا، فحتى الآلهة القديمة تم تصويرها إنسانياً، وهو التصوير الممتد إلى الخيال البشري الحالي الذي يتخيل الرب رجلاً متربعاً في السماء برداء ولحية أبيضين، والتي هي الصورة الأولى لزوس، أب الآلهة والبشر في التراث الإغريقي القديم.

وبينما أنا أحكي كل ذلك تطرقت لعالم الفيزياء الفلكية النابغة نيل ديجريس تايسون كمتحدث رئيسي حول هذا الموضوع، فقفز ابني بفرحة “أعرفه ماما، أنا من أشد معجبيه ومتابعيه، استمعت للعديد من محاضراته ومناظراته على اليوتيوب”. تجمد حديثي وتعلقت غصة في حلقي وافترشت وجهي ابتسامة وسعها السماء وسألت “تتابعه حبيبي؟ كيف؟”، “أنا مبهور بالفيزياء الفلكية وبنظريات الفيزياء الكمية وبنشأة الكون”، قال “أبي أعرف أكثر فأتابع العلماء المهمين في المجال”. تملكتني ساعتها مشاعر فخر طرق باب الغرور واعتزاز أتى مشارف الخيلاء، قلت له “لابد أنني فعلت شيئاً صحيحاً”. ضحك ضحكته الواسعة المعتادة، وأخذ يحكي بتحرر وانطلاقة عن انبهاره بالنظريات الحديثة وتمنياته بأن يكتشف أسرار الكون كله يوماً ما.

سمعت نصف حديثه، وأخذني غروري وانبهاري في نصفه الآخر. مع طلال، ابني البكر، الموضوع كان تجربة ونتيجة، خطأ وتصحيح، كان هو أول محاولة تشكيل فكر وحياة بشر آخر، وددت حمايته دوماً، واستغرقني شعور الأم الأناني بتسييره على ما أعتقد وتشكيله على ما أريد، قبضت على نفسي مرات عدة وأنا ألقنه أفكاري وأملأ صفحة عقله البيضاء بإيمانياتي، فأتراجع وأذكر نفسي بضرورة أن يحيا طلال بحرية، أن يفكر بتجرد، وأن يكتب هو صفحة حياته بنفسه. نجحت مرات في تحريره وفشلت أخريات من خلال تلقينه، ولكن اليوم، بعد أن مرت السنوات فاستوى فتىً يافعاً رائعاً، أرى نتاج هذه المرات القليلة التي تخليت فيها عن أنانيتي، أرى حصيلة إيماني بحرية العقل، وجلال التساؤل، وكمال الشك، وروعة البحث. كان هو يتحدث وأنا أسر في قلبي، أيتها الدنيا وأيها القدر، لا تحرماه أبداً هذا الانبهار الغض وهذه التساؤلات الطازجة، لا توصلاه أبداً إلى أجوبة نهائية ويقينيات خالصة، وليبقَ عمره كله متوهجاً ثائراً كما أراه الآن، يثيره اتساع السماء وسكون الكون ولمعان النجوم، يرافقه فضوله وتساؤلاته، يستنهضه خياله، يعيش ليفكر ويتساءل ويتشكك، فتبقى أبواب الخيال مفتوحة، فلا ينتهي عالمه الغريب السحري أبداً ولا ينضب استغرابه به وانبهاره بعجائبه مطلقاً.

طلال حر طليق، يفكر كما يشاء ويسأل كما يشاء، أتعلم أنا من أحاديثه وتساؤلاته، أتشبب بانبهاره وانفعاله، وأهنئ نفسي، غروراً وسروراً، على شيء رائع استكمل بدره في حياتي: طلال نجاحي الأكبر وإنجازي الأهم.