إن الهياج الشعبي تجاه قضية الإيداعات المليونية هو بكل تأكيد مستحق، بل متوقع من أي بشر لديهم أدنى شعور بالكرامة والغيرة الوطنية، إلا أن المشكلة العظمى ها هنا هي أن الحراك الشعبي هذا لم يتأتَّ إلا لأن الموضوع فيه “كاش”، فيه “إيداع” يعتقد القليلون أن البلد أحق به، ويعتقد الكثيرون أن جيوبهم هي المستحقة له. تأتي هذه الغضبة في خضم إضرابات تطالب بزيادات مستحقة وغير مستحقة، فاختلط “الطالع بالنازل”، وبدا وكأننا نعاني هستيريا الدنانير، من هنا نطالب بزيادات وكوادر، ومن هناك نعترض على سرقات وإيداعات، فنسمي الأول حقاً ونسمي الثاني فساداً، حتى أصبحت القضية أشبه بطبق “البايلا”، مع الاعتذار للمطبخ الإسباني عن التشبيه غير المستحق، يحتوي على كل فضلات الطعام المتبقية في المطبخ، ليس له طعم، ولا يعبر سوى عن فقر جيب ونفس.
الإيداعات المليونية فساد، والتصدي لها تعبير عن حرارة كرامتنا ووطنيتنا، ولكن ماذا يقول عنا موقفنا البارد تجاه “إيداع” أكثر من مئة ألف إنسان يعيشون على أرض الكويت للمجهول؟ وماذا يقول عنا سكوتنا على المماطلة والتسويف والقسوة والامتهان الذين لا يزالون ركائز أساسية في معاملة إخواننا البدون؟ وما دلالات صمتنا تجاه “إيداع” عقول أبنائنا للمتطرف “المتطوف” “المتخرف” عن طريق مناهج مدرسية لا أغرب منها سوى صمتنا تجاهها؟ وما تفسير سكوتنا عن “إيداع” حياتنا بأكملها في سلة “الواسطات”؟ وما معنى قبولنا “إيداع” وزارات كاملة وإدارات شاملة في حسابات قبلية وطائفية لا سبيل لاختراقها حتى صنعنا مؤسسات داخل المؤسسة ودولا داخل الدولة؟ كيف لا نهدر غضباً في شوارع الكويت عندما يتم “إيداع” أصحاب الأسماء الكبيرة ذات الأصوات الانتخابية الكثيرة في مستشفيات أوروبا وأميركا للعلاج السياحي هم وأسرهم ومن يعز عليهم في حين يتوفى بين ظهرانينا مرضى “حقيقيون” مستحقون؟ لماذا نسكت عن “إيداع” الرياضة في “جيوبهم” والانتخابات في “محافظهم” والمشاريع في حساباتهم البنكية؟
سلسلة الأسئلة يمكن أن تستمر، ويتكرر محورها الأكثر إيلاماً: ما دلالات سكوتنا عن كل تلك الإيداعات السامة المهينة وصراخنا وغضبنا تجاه الإيداعات “الكاش” فقط؟ فمنذ متى أصبحنا شعباً لا يغضب إلا على “الكاش” ولا يهدئ روعه إلا دفعة “كاش”؟ يبدو أننا تمت إعادة “صياغتنا” لنتماشى ومتطلبات الزمان و”رجالاته”، حتى إننا إذا ما تصاعد غضبنا وبادرنا بفتح أفواهنا للاعتراض، دس المسؤولون حفنة دنانير في حلوقنا، فانشغلنا بإخراجها وتنشيفها وعدها، وما إن ننتهي، حتى نكون نسينا القضية التي فتحنا أفواهنا من أجلها أساساً.
أخاف علينا من هذا النهج المتجدد، وأخاف منا بسبب هذا النهج المتمكن، وأنتظر لحظة صحوة يدرك فيها الشعب أن غضبته تجاه السرقات المالية، وهي غضبة مستحقة، لا تتواءم واستصراخه كوادر وزيادات لن تترك الميزانية إلا منهكة وقاصرة خلال السنوات القليلة القادمة، أنتظر اللحظة التي ندرك فيها جميعاً أن هذا فساد وذاك فساد، أنتظر اليوم الذي ننتفض فيه لفساد النفس قبل الجيب، أنتظر اليوم الذي نهدر فيه غضباً ليس فقط بسبب إيداع أموال في حسابات فاسدة، ولكن كذلك بسبب إيداع بشر ووطن في مستقبل مجهول مظلم متطرف، أنتظر، والانتظار بحد ذاته فساد ناعم، أنتظر بديلاً للانتظار، فهل من معين؟