ممارسات فاسدة صغيرة يومية، ممارسات لربما غير محسوسة بشكل مباشر، إلا أنها في تجمعها وتكومها اليومي تصنع هرماً كريه الرائحة، تبني سداً صلداً قبيحاً أمام التقدم المدني والتطور الإنساني. في زيارتي الأخيرة لمصر لاحظت ترسب هذه الممارسات اليومية تماماً كما ألاحظ ترسبها في الكويت، تختلف الأنماط ويبقى أثر الفساد واحداً. تتكوم الممارسات التي تبدو صغيرة ومتفرقة وخفيفة الأثر، لتنمو وحشاً كاسراً أمام الحياة الإنسانية الطبيعية، أمام نظام إداري قادر أن يحفظ العدالة وأن يحافظ على الكرامة الإنسانية.
في الكويت لا يحدث شيء بسرعة وإتقان، في أحايين كثيرة تصل لحد تشكل الظاهرة، سوى بعلاقة. أن تعرف أحداً يعرف أحداً يتواصل مع أحد يقترب من أحد ذي سلطة وقوة، ذلك هو سر الإنجاز في الأغلبية الغالبة من الأحوال. لكي تحصل على وظيفة، لكي تنال رتبة، لكي تحوز بعثة، لكي تنجز معاملة، لكي تستخرج ورقة، لكي تحدد موعداً في مستشفى حكومي، لكي تتحصل على مقعد في مدرسة وأحياناً لكي تجتاز سنة أو تحصل على درجة، لكي تتسلم طرداً من البريد، لكي تتمكن من الحديث مع والاستفسار من موظف في الحكومة، لكي تنجز من أصعب المهام إلى أبسطها وأسهلها، ستحتاج في كثير من الأحايين إلى وساطة، إلى علاقة ترتبط بعلاقة ترتبط بعلاقة تسهل لك المطلوب وتختصر عليك الخطوات. على سطحها تبدو الكويت، كما كل دول الخليج، دولة مدنية مؤسسية بديعة المظهر مرتبة الأسس. وفي عمقها تدور الكويت، كما كل دول الخليج، حول مجموعة من العلاقات الخفية في السراديب العميقة للمعارف والأُسر والأصدقاء والأنسباء والروابط القبلية والتطابقات الطائفية والتواصلات الأسرية، فإذا لم تكن تنتمي للأسرة الصح، القبيلة الصح، الطائفة الصح، الصديق الصح، الصح للمعاملة التي تود أن تنجزها، ستبقى تدور في رحاها لفترة وستتمطط الخطوات وسيطول الزمن قبل أن تصل إلى مكان أو إنجاز.
في مصر الفساد ذاته له وجه آخر، وجه الرشاوى والإكراميات، ورغم أن العلاقات مهمة كذلك، إلا أن أمور الحياة اليومية من أبسطها إلى أعقدها لا تمشي وتُنجَز إلا بالإكراميات الصغيرة المتفرقة التي تتجمع عليك آخر النهار مبلغاً محترماً. ورغم أنني أعتبر مصر بلدي الثاني الذي أمضيت فترات طويلة من طفولتي فيه وما زلت أواصله مع مضي سنوات العمر، إلا أن نظام الإكراميات بات، بالنسبة لي، عصياً على الفهم والتقدير. إبان رحلتي الأخيرة إلى مصر، لاحظت أن لا شيء ينجز، بداية من لطف فتح باب ما، مروراً بدخول حمام عام، والحصول على المساعدة في حمل كيس، ووصولاً إلى مجرد السؤال للاستدلال على الطريق، لا شيء من ذلك يُنجز دون دفع إكرامية ما. طبعاً لست هنا أعمم، كما لا أعمم على الكويت ودول الخليج، فالتعميم ظالم دائماً وهو بغير حاجة للتنويه عن فحش إطلاقه، إلا أن الظاهرة في مصر تعمقت وترسخت وانتشرت واستفحلت حد اقترابها من التعميم على كل خدمة أو حتى فعل غير خدماتي عادي، إلا أقل القليل.
في المطار ونحن نستودع الله مصر، وفي موقف حاد مرتب لم أستشعره بهذه القوة والغلظة من قبل، استلمتنا فرقة مترابطة مرتزقة تعمل بنظام وجدّ، لتنقلنا من باب المطار وصولاً إلى منصة وزن الأمتعة وتخليص معاملة السفر، وكأننا شحنة يُنتظر تخليصها. بدأ بنا الموقف مع موظف على الباب تبين أننا لن نفلت منه دون إكرامية، ليسلمنا لآخر يدخل الحقائب في سير التفتيش الإلكتروني والذي لن يؤدي دوره دون أن نسبقه بالإكرامية، ليستلمنا خليفته الذي ينتظرنا على الطرف الآخر مفرغاً حقائبنا على عربة النقل الصغيرة ماداً بوزه أمامنا بانتظار إكراميته، ليتبعه آخر يقود العربة إلى طابور إدخال الأمتعة، ليعرض علينا التوقف في «طابور المرور السريع» الذي اكتشفنا، بعد أن قبلنا عرضه، أن لا وجود حقيقياً له، هو طابور خفي، لا يراه سوى مديريه، طابور ليس له مكان واقعي، لا تفرش تحته سجادة، ولا يقف فيه أحد، إنما تنتهي معاملتك فيه وأنت تحتسي شايك جالساً في كافيه قريب دون أن تعرف ما دار فيه أو كيف دار، على شرط أن تكون النفحة ضخمة، بضخامة الخدمة، وأن تأتي خفية، خفاء الطابور السحري، وأن تُقدم بابتسامة كلها شكر وعرفان واعتراف بالجميل. إبان الرحلة الطويلة المرهقة تلك، لاحظت النظرات التي تبادلها أعضاء الفرقة، إشارات العيون، تلويحات الأيادي، واعوجاجات الذقون التي كلها تشكل لغة منظمة واضحة تُنجز من خلالها المهمة في أقصر وقت ممكن وبأعلى قيمة ممكنة.
وعلى قدر استمتاعي بكل لحظة على أرض الكنانة، على قدر ما أنهكني نظام الإكراميات المُلِح العُصابي الذي بدأت تغيب عني، رغم تعمقي في المجتمع المصري، تفاصيله وتوقيته ونوعيته ومقاديره. لربما اختلف النظام مع اختلاف الزمن، وتحولت الإكراميات البسيطة اللطيفة الاختيارية التي كانت، إلى مبالغ كبيرة مقننة وممنهجة ومفروضة، كأنها حق مستحق، بلاها لا تتم الأمور، وإن تمت فستتم بنظرة غضب في أقلها أو كلمة لاذعة أو حتى حركة جسد مخيفة في مراحلها الشديدة إن لم يتطور الموضوع إلى عنف جسدي. ورغم أن نظام الإكراميات هو نظام منمنم، يطرز بشكل غير محسوس في نسيج الحياة اليومية، إلا أن أثره فادح، متراكم في جبل ثقيل من الفساد، يؤذي أهل البلد كما يؤذي سواحه.
علاقات دول الخليج وإكراميات مصر وغيرها من أساليب إدارة الحياة اليومية الفاسدة قد لا تبدو مشكلة رئيسية في دولنا العربية مقارنة بالمشاكل الضخمة الواضحة التي تسد عين شمس حياتنا وراحتنا، إلا أنني أتصورها، بخفائها ونمنمتها وتغلغلها غير المحسوس، الأكثر شراً والأشد إيذاء والأخطر أثراً. كيف يمكن أن نقضي على هكذا ممارسات هي في عمق ثقافاتنا، رسخها الزمن واستمرار الممارسة بلا حسيب أو رقيب؟