فراشة

اسمعي يا صديقتي، لا تدعي غضبك يأخذ عليك بصيرتك فلا ترين روعة المسار وهيبة النضال وغرابة قصة التاريخ، هذه القصة التي كان لك دور بطولة رائع فيها. لوهلة اخرجي خارج الإطار وانظري للمشهد من بعيد، انظري لروعة الطريق رغم وعورته، طريق فرش بالأجساد والأرواح، بالآلام والأحزان، بمشاعر الغربة والخوف، بالتساؤلات والتناقضات والصراع مع الذات والمجتمع والناس، طريق بدأ يتمهد بثمن، ثمن غال جداً، دفعته السابقات من أرواحهن وأجسادهن وأمنهن وشرفهن وكراماتهن حتى يتسنى لنا اليوم أن نخرج، فنقرع الجرس.

سيهيمن الساخرون، سيفرط الوقحون، سيقولون عنا أبقارا تقرع الأجراس، سيتناولون أشكالنا وعائلاتنا وشرفنا وكراماتنا، يتداولون صورنا في التجمعات والدواوين، يصوغون النكات، يبحلقون في الوجوه ولربما الأجساد، يغتالون الكرامات بفاحش القول ودنيء السخرية. كل القبيحات خرجن يقرعن الأجراس سيقولون، زوجوهن وأخرسوهن سيتضاحكون، سيتناولوننا بكل قبيح ساخر وقول فاحش قبل أن يتوضؤوا من أجل صلاة العصر. لكن التاريخ يقول إنهم بكل فحشهم سيختفون وسنبقى نحن بأجراسنا، يتردد ويتمدد صداها عبر الأزمنة القادمة في تلاحم وتناغم مع القادم منها من الأزمنة السابقة، جوقة رائعة متناغمة، لحن له زرقة حنونة، يَبكي الآلام ويحلم بالآمال ويهلل للصغيرات القادمات اللواتي لا محالة سينضممن قريباً للكورال.

سيظهر المتعالون، المشككون، يستهينون بالرمزية البسيطة، يسخرون من العدد القليل، يتهموننا أننا سذج، أننا متشرذمون، أننا بلا رؤية أو تخطيط، لا يعلمون وهم ينظرون من عليائهم أن كل أنثى تولد تصبح مباشرة نغمة في اللحن الطويل الحزين، أن كل إشارة رافضة، كل إيماءة مقاومة، كل لافتة ترفع، كل كلمة تقال، كل نظرة عين تصوب، هي تلقائياً جزء من مخطط قديم طويل، مخطط لا يستدعي الكلام ولا يستجدي اتفاقاً، مخطط مزروع في جيناتنا الأنثوية، يكتب علينا مع شهادات ميلادنا، نرضعه مع حليب أمهاتنا، ننفذه في كل عمل ثوري خطير وفي كل إشارة رافضة متواضعة، مخطط نحتته سابقاتنا في أرواحنا نحتا، تتوالى أنفاسنا لتنفيذه، وتفنى سنواتنا فداء تحقيقه.

لا تجزعي، لا تغضبي يا صديقتي وهم ينعتونك ويضحكون على جهدك ويقيمونك من مظهرك ويضربونك في أوجع مناطق روحك، في شرفك، اخرجي لحظة خارج الهوجة المجنونة وانظري إلى روعة الطريق، إلى سابقاتك اللواتي عانين شيئا لا يمكن أن تتخيليه، وإلى لاحقاتك اللواتي لن يتمكنّ من تخيل معاناتك أنت، اللواتي سيحظين بحظ أفضل وفرص أكثر وحياة أعدل بسببك، لأنك اليوم… قرعت الجرس.

جففي دمعك وابتسمي، أنت جزء من نضال طويل، أنت قضية، أنت تاريخ، أنت، فقط بحكم بيولوجيتك ودون حتى اختيار منك، مناضلة، تولدين هكذا وستموتين هكذا، شرف حياة لها معنى، لها غاية وهدف، فهلا ابتسمت؟ دعيني أخبرك أن لربما لن يغير جرسك بوصوصته اللطيفة حياتك اليوم، إلا أنه سيترك أثراً على تاريخ الإنسانية كلها، كما تأثير الفراشة *، ليدق في أذن امرأة أخرى بعد عشر سنوات، بعد مئة سنة، بعد ألف سنة، فيغير حياتها، ويغير الكون كله.

هل تذكرين أيام اعتصامات حقوق المرأة السياسية في سنة 2005؟ خرج إبانها بعض النواب، منهم من لا يزال يتمسح بقعر كرسيه الى اليوم، لينعتنا بالخراتيت، وها هن خراتيت الأمس يصوّتن ويترشحن وينجحن، وقد هبط أسود الأمس الى أطراف أثوابهن ابتغاء الصوت. لا عليك، أسموك خرتيتاً أو بقرة أو حتى ناموسة، تبقين أجمل وأفضل وأعظم الكائنات نضالاً في هذا العالم الفسيح، تبقين فراشة رفة جناحها تغير العالم. دعيهم ودعي الأذى يمر من خلال شفافية روحك، وانظري في تاريخك النسوي الطويل، تاريخ ورثته أمّاً عن جدة، تاريخ حملته عن كتفي كل امرأة ولدت على سطح هذه الأرض، تاريخ كتب بالدم والدموع، وهل من تحمل كل هذا الشرف وكل تلك العراقة التاريخية وكل هذه المسؤولية الإنسانية لديها الوقت لتتأذى من سخرية رخيصة أو نقد متعال؟ افرشي جناحيك يا جميلة، واضربي الضربة الرقيقة التالية، طريقنا طويل.

*تأثير الفراشة هي نظرية فلسفية معنية بتأثير كل حدث مهما صغر على أحداث العالم أجمع، حتى أن ضربة من جناح فراشة يمكنها أن تغير المستقبل بأكمله.