هل بُنيت دولة التمييز العنصري الإسرائيلية في قلب الشرق الأوسط على دعائم فكرية دينية؟ لا يزال حوار البدايات مستمراً حتى مع دخولنا مرحلة نهايات هذا الكيان القمعي العنصري، ذلك أنه لا تزال محاولات التحليل قائمة: كيف استطاع مجموعة من يهود أوروبا، متدينين كانوا أم لا دينيين، استخدام تاريخهم، مظلوميتهم، مأساة محارقهم النازية، بل وحتى تاريخ المنطقة التي ينوون الاستيلاء عليها، لبناء وتدعيم كيانهم المشوه الذي، ويا لغرابة الوضع! استطاع الاستمرار لما يقرب من خمسة وسبعين سنة، رغم انعدام حججه وجرائمية سلوكه؟
بلا شك، إن الدعم الأوروبي الذي لحقه دعم أمريكي قوي، ذلك أن أمريكا لم تكن مؤيدة لقيام الكيان الصهيوني في بدايات حركة النزوح اليهودية حيث نظرت للحراك على أنه ضار سياسياً واستراتيجياً بمصالحها، هما من أهم أسباب تقوية دعائم الكيان الصهيوني في قلب الشرق الأوسط، وذلك لأسباب معروفة وواضحة. لكن الواضح من التاريخ البشري أن كل كيان مجرم يخلق له أصحابه قصة رومانسية، قد تكون رومانسية تاريخياً، رومانسية اجتماعياً، بل وفي أحايين كثيرة رومانسية دينياً، لاعباً على أوتار مشاعر أصحاب الكيان كما جمهور المشهد ومستدراً عطفهم ومساندتهم من خلال أي من هذه السرديات التي يرويها بحلم وشجن ومسكنة.
النازية، ككلمة، هي تختصر اسم الحزب: الحزب الاشتراكي الوطني الألماني، توصيفات كل منها بمفرده يحمل معاني أيديولوجية راقية وعميقة.
لقد سعى هذا الحزب لكسب عمال اليسار، وحاول إعادة تعريف مفهوم الإصلاح الاقتصادي من خلال عملية الإصلاح السياسي. انطوت هذه الحركة على مفاهيم قد يكون لها رنة إيجابية راقية، مثل: إصلاح الأراضي، تأميم الأملاك، وديموقراطية القائد التي ستجمع البشرية تحت راية أكثر القادة إصلاحاً وقوة.
ومن أسفل مظلة هذه المفاهيم «الرومانسية» ظهر هتلر، الرايخ الثالث، لينكل بيهود ألمانيا وأوروبا وأي معارض له، بل وأي شخص يمثل ضعفاً ويشكل عبئاً على الإمبراطورية الألمانية التي ستكتسح العالم. وهكذا ببساطة، مستغرباً سرعة وسذاجة انطوائها على البشر، ارتدى الإجرام حلة أخلاقية، وسار ينكل في البشرية على أسس تتنافى وكل مفهوم أخلاقي رفيع حاول هذا الإجرام استغلاله ليبني عليه بناءه الكاذب الوحشي المريض.
النازية المعاصرة للقرن الحادي والعشرين ألا وهي الصهيونية، ويا للغرابة! هي أكثر من عانى من النازية الحداثية الماضية للقرن العشرين. وكأن الصهاينة أصبحوا عبيد جلاديهم، فما انفكوا يكررون الجرائم ذاتها، وكأنهم لا يعرفون غير هذا الأسلوب الموبوء، وكأنهم لا يفهمون طريقة لبناء كيان غير تلك التي استخدمتها النازية لتبني كيانها على أشلائهم. تبدو الصهيونية مثل الابن المريض الذي خرج من تحت يد أب عنيف مؤذ، والذي على قدر عذاباته، على قدر ما يصبها هو بحد ذاته على كل من حوله، ذلك أنه لا يعرف غير هذا السلوك سبيلاً، ذلك أنه أصبح مريضاً بمرض جلاده. هناك من يستطيع الهروب من مرض الماضي ليشفى منه، وهناك من يصبح موبوءاً مريضاً عاشقاً لمرضه، حتى إنه ليستعذب استعراضه وجلد الآخرين به، هذه هي النفسية الصهيونية.
حين نشهد اليوم القتل الجمعي الفاحش الوحشي لأهل غزة متبوعاً بتعليقات مثل «إسرائيل لا تستهدف المدنيين» و«هذا رد متساوق والحدث» و«إسرائيل تحمي نفسها» و«حماس هي من جلبت ذلك عليها وأهل غزة»، فلا بد أن يخطر في بالنا أن النازية ما زالت حية ترزق، وأن الفاشية نابضة في قلب ووعي البشرية الجمعي، نعم الجمعي؛ ذلك أن التخلص من الفاشية والنازية وكل حركة إجرامية سابقة هو واجب البشرية جمعاء، وبقاؤها هو إثم البشرية جمعاء كذلك. الطائفية مستمرة، والعرقية والعنصرية مستمرتان، والفاشية والنازية مستمرتان، واليمين المتطرف حي يرزق، واليسار الراديكالي يحيا ويتنفس، فأي اعتدال أو إنسانية أو تحضر أو تمدن أو عقلانية وصلنا إليها في هذا القرن المنكوب!
بين فترة وأخرى أعود لتسجيلات الطفلة هند، وهي تترجى الهلال الأحمر أن ينقذها من محبسها في السيارة التي أصبحت كفناً لبقية أهلها. أتخيل هند ذات الستة أعوام في السيارة المحاصرة بالدبابات لأكثر من اثنين وأربعين ساعة، يخفت صوتها شيئاً فشيئاً وهي تترجى محادِثتها على التلفون أن «أمانة خذيني، تعالي»، إلى أن ينقطع الصوت وينقطع معه كل أمل في البشرية. أستدعي مشهد فحش الجريمة حين أعطى المسؤولون الإسرائيليون الحقراء الضوء الأخضر لسيارة الهلال للذهاب لإنقاذ الطفلة، ليفجروها بعد ذلك بدقائق بمنقذيها الاثنين ما إن اقتربا من السيارة التي كانت تقبع هند فيها. قضت هند وكل عائلتها، قضى المسعفون، وقضى الآلاف من المدنيين كباراً وصغاراً بعدهم، لاجئين في مدارس، هاربين على الطرقات، مختبئين في بيوتهم، مصلين في الباحات، الكل قضى بلا تمييز، بلا تفرقة، وهذه هي الحالة الوحيدة التي لم تميز فيها إسرائيل الصهيونية، حالة القتل.
وها هي صور الأسرى «المحظوظين» من الفلسطينيين الذين استطاعوا البقاء على قيد الحياة بعد خروجهم من السجون الوحشية الإسرائيلية، تذكرنا بصور طبق الأصل لليهود المعتقلين من قبل السلطات النازية أو للمعذبين منهم تجويعاً وحرماناً وتشرداً في مناطق «الغيتو» اليهودية. أي إنسان بنصف عقل وربع وعي، يمكن له أن يرى التاريخ مكرراً نفسه صوراً وفيديوهات تكاد تكون متطابقة لولا أنها اليوم مصورة بالألوان، وأن يشهد كيف أن التعذيب والتنكيل والوحشية والتجويع والتشريد والقتل وتجميع الناس، صغاراً وكباراً، في مساحات ضيقة لتفجيرهم وإحالتهم أشلاء متناثرة كلها تبدو وكأنها أصداء من ماضي اليهود بحد ذاتهم. هذه المرة، المجرم هو ضحية الأمس، والذي فاق جلاده ضراوة ووحشية وحقارة. نازيو الأمس كانوا يصفون اليهود الضحايا بالفئران الذين يتلذذون باصطيادهم. وصهاينة اليوم، ورثة نازيي الأمس، يحاولون تطبيق الأسلوب الوحشي المريض ذاته، رامين تجمعات الفلسطينيين في أماكن ضيقة مكتظة فئراناً، لينكلوا بهم ثم يفجرونهم، وليكتشف هؤلاء أن الفلسطينيين، نساءهم قبل رجالهم، أسود، وأن الفئران الوحيدة الباقية في العالم هي هم: الصهاينة النازيون.
الصهاينة نازيون، فاشيون، معادون للسامية، هم فعلياً كل ما يكرهون، هم حقيقة كل ما يحاربون، هم واقعياً يمثلون كل من اضطهدهم ونكل بهم وهجّرهم. هم البعبع الذي يخافون، والكراهية التي يدعون محاربتها، والعنصرية والتطهير العرقي اللذان يدعون مقاومتهما. وهم الشيطان الذي يرجمون، هم الجن الشرير الذي يحاولون الهرب منه، كما يدعون، طوال بقائهم النجس. سيأكلون أنفسهم بأنفسهم، وسيقضون على وجودهم المضرب المريض بجهودهم بحد ذاتهم، وساعتها ستحتفي البشرية بزوال البعبع وحرق الجن الشرير.