في ذكرى النكبة يُسمع رنين المعدن في الذاكرات القديمة التي رغم قِدمها لا تبهت أبداً، تتبدى الحبال الذائبة حول الرقاب الناصعة الطرية متدلية بتلك القطع المعدنية الصدئة التي كانت ذات يوم مفاتيح لأبواب خشبية عريقة، أبواب ما زالت موجودة لبيوت ما زالت موجودة، موجودة في الذاكرة والوجدان والتاريخ والمشاعر والإيمانيات والمبادئ، موجودة بقوة وثبات أكبر مما لو كانت موجودة مادياً بطابوق وتراب وخشب وزجاج. في ذكرى النكبة تحن القلوب وتنعصر الأرواح وتتهافت الوجدانيات وتغتسل النفوس والأجساد بألم الحنين إلى أماكن وبيوت وأبواب في الأغلب الأعم لم يرها المتعذبون بها، إلى روائح في الأغلب الأعم لم يستنشقوها، إلى شمس وهواء وحقول وزيتونات في الأغلب الأعم لم ينصهروا معها، إنما هو حنين موروث، حنين من ولد تائهاً إلى أرض تاهت عنه، وتاريخ سُرق منه، وشمس وهواء ورائحة وبيت وباب و»تنكة» زيتون أخذوها غدراً في ليلة ظلماء «قُتل» فيها البدر.
في ذكرى النكبة تحضر فكرة غرابة جنسنا، روعته، جمال تطوره، قسوته ووحشيته، في هذه الذكرى تفرض مشاهد المحارق النازية نفسها على الصورة كذلك، نتذكر الملايين الذين قضوا فيها تعذيباً وحرقاً وصهراً من أجناس العالم المختلفة وخصوصاً من يهودها، لترتفع فوق الصورة صورة أقبح وأكثر بشاعة، ولنرى كيف ينكل بالأبرياء اليوم من تم التنكيل بهم أمس، ولنتساءل أي نوع من الأجناس نحن؟ كيف يفوتنا أن نتعلم من التاريخ؟ وإن فاتنا التعلم، كيف يفوتنا أن نشعر ونفهم عذابات وآلام الآخرين التي كانت من نصيبنا ذات يوم؟ أي جنس هو جنسنا؟
في ذكرى النكبة تحضر الصورة التي أصبحت جزءاً من تراثنا العربي وثقافتنا البصرية بل وهويتنا النسائية، صورة «الأم» الفلسطينية بردائها الأصيل المطرز، تقف أمام بيتها المتهدم في وسط حقلها المنهوب، على حدود قراها ومدنها التي كانت تتنقل بينها ذات زمن بحرية وأمان، تقف حزينة معصورة القلب، لكن شامخة، مقاومة، غاضبة غضباً هادراً لا يعرف الخوف ولا يطرف تجاه السلاح في أيدي من يحاصرها من الجبناء. حين أفكر في فلسطين أراها امرأة، وحين أفكر في الحقول أراها مجموعة نساء، وحين أفكر في الزيتونات أراها كوكبة فتيات ناصعات السمار البرونزي، وحين أفكر في الأبواب والحدود والشمس والهواء والروائح العريقة والمساجد والقباب، أراها كلها نساء، لها ثباتها وقوتها وفي الوقت ذاته لها حنانها وجمالها وطراوة منظرها ومخبرها. في ذكرى النكبة تتبدى فلسطين امرأة مغدورة، امرأة منكوبة معذبة، إلا أنها امرأة لم يستطع أحد أن يقترب من ذيل ثوبها الطاهر.
في ذكرى النكبة ننعى خساراتنا الفادحة، خسارات لا تتمثل فقط في فقدان قطعة أرض من قلب العالم العربي، لا تتراكم فقط أجساداً يانعة شابة لفلسطينيات وفلسطينيين ولدوا ليعودوا للأرض بسرعة وشوق، لا تتجمع فقط أحزاناً وأشواقاً وعذابات في قلب سجون الكيان الصهيوني، لكنها خسارات تتمثل أقسى ما تتمثل كذلك في صورة عالم ممتد كبير، عالم يتفاخر بعرقيته الموحدة وامتداده من المحيط إلى الخليج، عالم يطنطن بالتاريخ الزاهي والأصل الشجاع الذي يفنى أهله دون كرامته وشرفه، لكنه رغم ذلك لا يتحرك خطوة باتجاه القدس الأسيرة، عالم نسي التاريخ والامتداد العرقي ومفاهيم الشجاعة والكرامة، ونام في أحضان العالم الجديد، متلفعاً بهوانه ومحتضناً مصالحه ودولاراته، بل وفي بعضه ماداً يداً تصافح يد القاتل وأخرى تدس الملح في قلب الجرح. في ذكرى النكبة ننعى العروبة بنخوتها الكاذبة كما ننعى الإنسانية الخاوية جمعاء.
في ذكرى النكبة نحتفى بفلسطين المنتشرة في بقاع العالم، في انتصارات الفلسطينيين حول الكرة الأرضية. في ذكرى النكبة نتذكر أن في كل بقعة من العالم يوجد حي فلسطيني، استقطع نفسه من محيطه وعاد روحاً ورائحة، شكلاً وموضوعاً، إلى فلسطين، إلى شكلها ورائحتها وأطعمتها وزرعها وملبسها ومساكنها حتى أصبح يوم سرقة فلسطين هو يوم بزوغ «فلسطينات» لا تعدّ ولا تحصى في بقاع العالم أجمع. في ذكرى النكبة نواسي الروح بالسفراء الذين لا ينتهون للأرض الفلسطينية، سفراء يتوارثون الوظيفة، الوراثة الوظيفية الوحيدة الشريفة في نظامنا البشري، جيل يسلم «السفارة» للجيل الذي يليه، وسفارة تنتج سفارات ليس فقط في المدن الكبيرة ولكن حتى في القرى الصغيرة والمناطق الحدودية، حتى أصبحت فلسطين في كل مكان، لربما البلد الوحيد الذي يسكن الكرة الأرضية بمجملها.
في ذكرى النكبة أدعو بحرقة أم فلسطينية مقهورة، أن اللهمّ زلزل قواعدهم العسكرية من تحت أجسادهم النجسة وأحرق قلوب ساستهم وجنودهم بشتات لا يرون بعده مستقراً، و»أعدني إلى وطني عندليب»*، اللهم آمين.
*رحم الله عندليب فلسطين محمود درويش