رقدت في حقيبتي طوال يوم سبت الانتخابات بجلدها الأسود اللامع ونقشها المذهب تسر الناظرين، أدس يدي في حقيبتي وأتحسسها كأني أستجديها النصح، أسحبها وأتصفحها وكأن الإجابة مخبأة بين الصفحات الفاخرة ذات القطع الصغير. ساعة أقرر فأقدم، لتلحقها دقيقة رفض فأؤخر، يوماً عصيباً قضيته بصحبة جنسيتي ومخاوفي وترددي المقيت.
ليس لدينا نظام سياسي محدد المعالم حتى أستطيع أن أتخذ على أسسه قراراً واضحاً أشعر أنه سيكون مؤثراً ومجدياً في إيصال الرسالة التي أريد، فلا أحزاب مقننة ولا تقسيم دوائر عادلا ولا عدد أصوات ملائما لعدد الدوائر والبشر، لا معارضة حقيقية مقننة تلعب طبقاً لقواعد اللعبة ولا موالاة حقيقية ثابتة تبرز بوجهها وتتحمل مسؤولياتها. في المقابل، يستشري الفساد وينتشر حتى ليقضي على البقية الباقية من الممارسة الديمقراطية الحقيقية التي نحاول أن نعيش مظاهرها. إلا أنه ليس الفساد وحده الذي يعيق هذه الديمقراطية، فهناك فهمنا الخاطئ لها من حيث حصرها فقط في صندوق انتخاب، ربطها بالقوانين الجامدة دون استيعاب المتغيرات والمرونة التي تتطلبها، عزل الأقليات عند ممارسة الديمقراطية على أرض الواقع، تدخل أصحاب النفوذ بشكل “حامي” وسافر، وغيرها من معيقات أشلت الديمقراطية لتخنقها “ليلة عرسها” وكل ليلة من بعدها.
وعليه فقد بقيت أتأرجح طوال اليوم ما بين مقاطعة أراها مازالت مستحقة كصوت احتجاجي على سحب سلطات الشعب وعلى الممارسات التعسفية السافرة مع أصحاب الرأي، وعلى الفساد الذي يستشري بمعرفة- إن لم يكن مباركة- حكوماتنا المتعاقبة، والذي يبدو في أبهى حلله تحديداً يوم الانتخابات، وما بين مشاركة أراها أضعف الإيمان في اتخاذ خطوة إيجابية نحو التغيير وأعتقدها تحية لمبدأ الالتجاء للقضاء وإن أتى الحكم على غير ما كنا نتمنى. ساعة أقول شاركي بعد المقاطعة حتى تكوني قد جربت كل الممكن، وساعة، وبعد أن تخبطني أخبار شراء الأصوات والفرعيات والتكتلات الطائفية المريضة التي ارتفعت نسبتها بشكل غير مسبوق في الانتخابات الأخيرة، أقول ابتعدي عن هذه الأجواء الموبوءة فليس في مدارها نسمة هواء تنعش رئتيك الجافتين.
ولكي يزداد طيني بلة، عمدت صغيرتي القادمة من أميركا في إجازتها الدراسية للحديث عن الديمقراطية الحقيقية وعاقبة التخلي عن حقنا فيها، “ففي أميركا مثلاً…، والناس في الدول المتقدمة…” وغيرها من الجمل التنظيرية التي طالما تشدقت بها عندما كنت في سنها، حين كنت أعتقد أنني فهمت الدنيا التي أراها بمنظور واحد وأعتقد بمبادئها الثابثة لا تتغير بتغير المكان. حاججتني بإيجابية العمل فلم أشأ استخدام حججي السلبية، واجهتني بالأمل فلم أشأ الاعتراف بيأسي المتقطع، تكلمت عن التغيير من داخل “السيستم” والتغيير من خارجه، وكيف أننا يجب أن نستخدم الاثنين وأن نلعب مع “السيستم” لعبته، فلم أشأ أن أقذفها بجملة واحدة تدور في رأسي: “أي سيستم؟”
في الثامنة إلا ربع مساءً، فردت الصغيرة عضلاتها وأصرت على اصطحابي لمركز الاقتراع. جلست خلف المقود وكلها شعور بأنها ربحت معركة وأنها غيرت شيئاً. وصلنا إلى مركز الاقتراع، فصرحت بصوت أرادته مطمئناً وقوياً مثل صوت يوسف وهبي في الأفلام العربية: “أنت تسوين الشي الصح ماما، يلا صوتي لأفضل من تعتقدين”. أبرزت الراقدة في حقيبتي طوال يومها، ومشيت بوقع درامي بطيء إلى باب غرفة الاقتراع، لربما أغلقوا أبوابهم سريعاً، فيحسمها القدر ويريحني، إلا أن الباب كان مفتوحاً والوجوه المرهقة لا تزال باسمة آملة والألسن لا تزال لاهجة بأسماء مرشحيها. نبض قلبي نبضة ذكرتني بعشقي القديم ليوم الانتخابات وبنشاطي الذي يبدأ من صباحه الباكر وبآمال كانت وتطلعات باءت وأحلام لم تختفِ كل آثارها بعد. ابتسمت وقلت في قلبي “هذا الصوت لك يا ابنتي”.
طبعاً، وكما توقعت، ما إن أدليت بصوتي حتى داهمني الندم، كنت أنتظره سواء صوَّت أو امتنعت، كنت أدرك أنه سيكون رفيقي للأيام القليلة التي ستلي الانتخابات، لكنني سأنسى في النهاية، كما سننسى جميعنا ما حدث ويحدث، فنحن شعب ينسى بشكل انتقائي، نسيان ينجح على أثره أحد رموز شراء الأصوات، وآخر معجون بطائفيته المعلنة، وثالث ورابع رقصا بفرعيتهما على جسد الكويت، لكننا ننسى ونسامح، ونعود بقدرة قادر للدوران في أي ساقية تنصبها لنا حكومتنا ونظامنا: حل المجلس، نحل، إعادة انتخابات، نعيد، حكومة جديدة، نجدد، وهكذا ندور وندور، حتى ليصبح صنع قرار أساسي وواضح مثل المشاركة أو المقاطعة قراراً معقداً غائماً غير واضح المعالم في أجواء معجونة بالمال السياسي والمؤامرات الخفية والتدخلات السلطوية التي توهمك أنك صاحب القرار والاختيار، فيما القرار معقود والاختيار موجود، وصوتك من عدمه في الواقع في هذه الأجواء…”ما يفرق”.