عليَّ وعلى أعدائي

الدكتور عبيد الوسمي يمثل نموذجاً غاية في الأهمية اليوم، نموذجاً يجب، أكثر ما يجب، على الحكومة أن تدرسه وتستوعبه. الدكتور الوسمي، عندما سمعت عنه في البداية، ثم عندما تبادلت معه الحديث مرة أو اثنتين، آخرها كان عندما اتصل بي ليطمئن بعد أحداث العنف في تيماء ضد «البدون»، عرفته رجلاً سمحاً طيب القلب، متواضعاً، وأكاد أقول رقيق اللفظ خافته. فما الذي حدث لينقلب الدكتور في منهجيته وتوجهه وخطابه من رجل قانون ملتزم طيب اللفظ إلى الرجل الذي نسمعه اليوم مرتفع النبرة، قاسي الكلمة، يعتمد التهديد والوعيد، بل يهدد بانتهاك القانون؟

ما الذي يدفع دكتور القانون لأن ينتفض بكلمات تتناقض وتخصصه الأكاديمي والمبادئ التي يدرِّسها لطلبته، فيصرخ: «اللي يعتدي علينا نعتدي عليه»، «راح أسبك أنت براسك» (إشارة لرئيس الوزراء)، «اللي يشتمنا بنقص لسانه»، «إذا لم يطبق القانون قسماً بالله لأطبقه بنفسي لأنكم أصلاً مو محترمين»، «لا تجربون صبرنا أكثر مما صبرنا» «إذا أنت مو محترم القانون إحنا بعد ما نحترم القانون»، «لا تحدنا نقول نرفض تطبيق القانون»، وهي كلها جمل جاءت في إحدى ندواته الانتخابية، ليستمر هذا النهج الآن بعد فوزه الذي توجه باستجواب لم يكد يُقدم حتى سُحب؟

إن سردي لكل هذه الجمل له غاية تبتعد عن لوم د. الوسمي، بل ربما العكس هو الصحيح، فكل جملة من هذه الجمل في الواقع تشير بأصابع الاتهام إلى الحكومة التي خلقت هذا الخطاب، وأسست لهذا النهج محولة رجل قانون مسالم راقي اللفظ، إلى الرجل الذي هو الآن، غاضب حانق، متهدد متوعد حتى للقانون الذي هو «عقر» عمله، وكأنه عطيل الذي أوصلته الظروف إلى هدم المعبد على رأسه هو قبل غيره.

لقد انتهجت الحكومة السابقة، والتي لا يزال وزير داخليتها على كرسيه في الوزارة الحالية، نهجاً عنيفاً غير مسبوق في الفترة الأخيرة، أعملت قواتها الخاصة بطريقة قمعية، ثم فرقت في قمعيتها، فهؤلاء قمعتهم أكثر، وأولئك أقل، ثم فرقت في تطبيق قانونها، فهؤلاء حاسبتهم وأولئك سرحتهم، ثم فرقت في سرعة تعاملها، فهؤلاء ماطلتهم وسوّفت وأولئك أسرعت في تطبيق قانونها عليهم. أصبح منظر القوات الخاصة وقوات الشرطة معتاداً بالنسبة إلينا، نحن الذين كنّا نتوجس خيفة واحتراماً إذا مرت دورية في الشارع. أصبح الضرب متوقعاً، ومع ارتفاع النبرة الطائفية والقبلية، أًصبح مبرراً، ومع استمرار الفوضى أصبح مرغوباً، فأخذ البعض، بدافع الخوف من الفوضى والانشقاق الحاصلين، يشجع العنف غير واع أنه بتشجيعه هذا لا يقبل فقط الحالة المنفصلة في زمنها ولكنه يقبل المبدأ بحد ذاته والذي لابد أن يأتي يوم فيلتف حول رقبته.

فقد الدكتور الوسمي ثقته بمؤسسة الدولة كما فقدها الكثيرون غيره، ومدت الحكومة يدها فأجبرت الجانب الأكثر تطرفاً في نفس الدكتور على الظهور والتسيد، كيف لا وصورته واقعاً على الأرض مضروباً، تحرق ثنايا القلب، قلوبنا نحن الذين شاهدنا الحدث، فكيف به وقد عاشه ثم عايش كل آثاره الجسدية والنفسية؟ لِمَ لا يهدد ويتوعد وهذا هو «الحوار» الوحيد المتداول هذه الأيام؟ لم لا يقول برد الشتيمة والاعتداء وقد بدوا كأنهما نهج الدولة الرسمي اليوم؟ لم لا يقول بكسر القانون والقائمين على حراسته يطوعونه ويعوجونه ثم يكسرونه كل يوم؟ الناس على دين ملوكهم، وهذا دين حكومتنا، والدكتور الوسمي خلاصة تطرفها واستئسادها وتراخيها، كلها في ذات الوقت.

لقد قال الدكتور فيما قال: «نعلم حقدكم الدفين على كل ما هو قبلي»، زافاً لنا بوضوح إيمانه بعنصرية الدولة، وقال «تم الاعتداء عليّ أمام الكرة الأرضية» ناعياً القانون الذي سقط أسفل هراوات رجال «الأمن». لقد خلقت الحكومة بنهجها هذا الرجل الثائر الغاضب، الذي ما إن تخطى عتبة المجلس حتى أعلن استجوابه لرئيس الوزراء، والذي، كلما رأيت صورته ملقىً على الإسفلت، عذرته وبررت له. لا يَخلِق الثوار الغاضبين الذين ينتهجون العنف اللفظي لاجئين إلى الشارع بتقسيماته الطائفية والقبلية فيقضون بصراخهم مضجع حكوماتهم، سوى تلك الحكومات بحد ذاتها، بعد أن تحِيْد هي عن سبيل القانون سائرة في سبيل عسكرة الشارع، فاتحة الأبواب الخلفية للمباحث وأمن الدولة، بعد أن تنتهك حقوقهم وكراماتهم، وبعد أن تسد السبل عليهم، فلا يبدو أمامهم إلا سبيل وحيد هو ذاته الذي تمشي عليه الحكومة، فتكون المواجهة في منتصف الطريق… ونحترق جميعاً.

أنتم السبب.