عقوبة أمومية

توفي قبل أيام زوج قريبة صغيرة لي تاركا إياها بعدد من الصغار وخبرة شبه منعدمة في الحياة، حيث أنها لم تعمل منذ بداية زواجها قط. تجاربنا الصارخة المؤلمة تلك دوما ما تدفعنا لمراجعة الكثير من المبادئ التي يسهل التشدق بها في وقت رخاء أحداث الحياة إلا أنها تأتي لتلطمنا على وجوهنا إذا “حجت حجايجها” كما يقول كويتيو الزمن القديم، بمعنى إذا ما اشتدت الأزمات وضاقت السبل.

لا شك أن المبدأ الواضح الصحيح، مع التحفظ على كلمة “صحيح” النسبية جدا، هو أن تتعدى حرية الاختيار كل ما عداها، فإن اختارت المرأة، تفاهما مع شريكها، أن تبقى في البيت عاملة فيه كزوجة وأم فهذا حقها الأصيل، إلا أن تجربة مثل تجربة قريبتي الشابة تجعل الواقع ملحا في تطلبه لأن تعمل المرأة، وإن رغما عن اختيارها، وأن تختبر الحياة خارج إطار بيتها، حتى إذا ما وقعت لها أي كارثة، والحياة لا تعدم كوارثها، تستطيع أن تتصرف وأن تحمي نفسها وبيتها بشيء من الخبرة في الحياة الخارجية.

وتزامنا مع خبر الفقد المؤلم هذا، كنت أشاهد حلقة من برنامج Explained حول الفرق في مدخول العمل بين الرجل والمرأة في معظم المجتمعات الإنسانية، وكيف أن البشرية الحديثة ترفع منذ زمن شعار “أجر مساو للعمل المساو” دون معرفة حقيقية لأسباب انعدام المساواة بين الجنسين.

يقول البرنامج إن التمييز الجنسي بين الرجال والنساء هو حقيقي ومؤثر في تحديد الأجر، إلا أنه ليس السبب الأوحد ولا حتى الرئيسي في تفعيل هذا الفرق الذي أحيانا ما يكون شاسع جدا.

يعطي البرنامج مثالا للأسباب التي ساهمت في خلق فجوة الأجر بين الجنسين في أميركا إبان الخمسينيات والستينيات، منها مثلا، نسب التعليم المنخفضة بين النساء، انتشار فكرة أن النساء أقل ذكاء من الرجال، عدم قدرة النساء على استعمال السلطة، ضرورة أن تعمل النساء في مجال “أنوثي”، ترسخ فكرة أن النساء هن من يرعين البيت ويربين الأطفال، ثم حقيقة أن التمييز كان مقننا.

ورغم أن الأسباب المذكورة أعلاه للتمييز آخذة في التقلص في أميركا، كما يقول البرنامج، إلا أن سبب أوحد استمر في التأثير بقوة، ولربما أن تأثيره القوي هذا محسوس في الأغلبية العظمى من المجتمعات الإنسانية، ألا وهو رعاية الأطفال.

يقول البرنامج إن السبب الرئيسي اليوم لهذه الفجوة في الأجر هو في الواقع إنجاب المرأة للأطفال، حيث أنه حتى حين تعمل الأم ساعات كاملة كما شريكها الرجل خارج المنزل، فإنها في الواقع تقضي تسع ساعات إضافية عنه اسبوعيا في العناية بالمنزل ورعاية الأطفال لتتراكم هذه الساعات على مدار السنة إلى ما يقترب من ثلاثة شهور من العمل. هذه الحسبة، يقول البرنامج، هي السبب الرئيسي في تفعيل فرق الأجر بين الجنسين.

يتبع البرنامج مسار الحياة المفترض لشريكين حديثي التخرج من كلية الحقوق وهما يبدآن الحياة الأسرية والعملية، حيث يبدو أن الإثنين يبدآن بذات الخبرة التعليمية والتجارب الحياتية، لتبدأ الفجوة بالحدوث حين يبلغان نهاية العشرينيات حيث يلح وقت الإنجاب؛ حينها سيجبر أحدهما على التواجد في البيت أحيانا حتى لو توفرت لهما خدمة رعاية الأطفال، مثلا في حالات مرض طفلهما، هنا عادة ما تقع هذه المهمة على عاتق المرأة.

البعد البيولوجي والنفسي والفكري والمجتمعي الذي يضعنا دوما كنساء في وجه المدفع

على إثر ذلك وبسبب من تواجده المستقر في العمل، سيبدأ الرجل في الحصول على الترقيات فيم ستضطر المرأة، بتكالب المهام المنزلية الأمومية، للاعتذار عن بعض مهام العمل، خصوصا تلك التي تتطلب السفر، أو بالتخلف عن بعض الاجتماعات أو بالغياب عن مكتبها بعض الأيام، ليتراكم كل ذلك بنتيجة، بعد ثمانية أو عشرة أعوام، أن الرجل يصبح شريكا في المؤسسة القانونية مثلا فيم المرأة ستتخلف ماليا وتراتبيا في ذات المؤسسة.

يقول البرنامج إن معظم الدراسات حول العالم تشير إلى أن فجوة الأجور بين الرجال والنساء لا توعز لكونهن نساء بقدر ما توعز لكونهن أمهات، إنها “عقوبة أمومية” حسب تعبير البرنامج، إلا أن الكثير من النساء مستعدات لهذه التضحية المالية ليس فقط لإلحاح مصلحة أسرهن، ولكن لأن المردود النفسي للمرأة التي تقضي وقت أطول مع أبنائها يستحق.

وعليه، يؤكد البرنامج على حق الاختيار، حيث أن الفجوة المالية التي تحدث بسبب ممارسة هذا الحق تفرق كثيرا عن تلك التي تحدث بسبب التمييز الجنسي، إلا أن حق الاختيار هذا غير متسع دوما للنساء وذلك لأسباب عدة لربما أهمها عمق انغراس فكرة مسؤولية المرأة المنزلية والتربوية في أذهاننا.

يقول البرنامج إن فكرة مسؤولية المرأة هذه ملحة حتى في الطريقة التي يظهر بها الطرفين نفسيهما في ساحة العمل، فعلى سبيل المثال، ينصح الرجال بتزيين مكاتبهم بصور لعائلاتهم، حيث يظهرهم ذلك على أنهم “رجال عائلة” (family men) مهتمين بالعائلة، فيم تنصح النساء بتجنب تزيين المكتب بصور عائلاتهن لأن ذلك سيعني أنهن غير قادرات على التركيز في عملهن وأنهن مأخوذات بالتفكير بالأطفال والبيت، وهذا بعد آخر للتفكير التمييزي بين الرجال والنساء والذي يفرض على المرأة إثبات جديتها والتزامها طوال الوقت وبأضعاف الإثبات المطلوب من الرجل.

يبشرنا البرنامج أن هذا الواقع آخذ في التغيير حيث يعطينا مثال لرواندا كمجتمع تغير قسرا على إثر التطهير العرقي الذي بدأ في سنة 1994 والذي مزق النسيج المجتمعي للبلد، حيث أصبحت رواندا تقريبا نسائية بنسبة 60 إلى 70 في المئة، مما دفع بالنساء بكثافة للخوض في مجالات عمل لم يكن متخيل دخولهن لها مسبقا أبدا. فهمت حكومة رواندا حاجتها الملحة للنساء لتبدأ بفرض تشريعات لمساواة المرأة بالرجل في فرص العمل والأجور ولينتهي الوضع اليوم باحتلال النساء لنسبة 61 بالمئة من مقاعد البرلمان، وهي النسبة الأعلى في العالم، وبانخفاض الفرق في الأجر بينهن وبين الرجال للأدنى في العالم كذلك.

لا تزال المشاكل التمييزية موجودة بالطبع، كما يقول البرنامج، رغم أن الوضع آخذ في التحسن، ومع ذلك، فإن التغيير الجذري الحقيقي أو النقلة الثقافية النوعية القادمة لن تتحقق سوى بتغيير مفهوم نسائية الرعاية الأسرية. إن تغيير هذا التوقع يجب أن يبدأ من الرجال، يقول البرنامج، من تأكيد فكرة أن هذه الرعاية هي مسؤولية الطرفين، الأب والأم، مما سيخلي ساحة حياة المرأة بعض الشيء لبناء مهنتها التي يفترض أن تشبعها وتؤمنها نفسيا وحياتيا.

لو أن حياة قريبتي الصغيرة بنيت على هذا المفهوم، لو أنها كانت أكثر تداخلا مع الحياة العامة واعتمادا على نفسها ماليا، لما كان لكارثة وفاة زوجها المبكرة هذا البعد الفظيع من الضياع والفوضى الحياتيين اللتين تعاني هي منهما الآن. إنه البعد البيولوجي والنفسي والفكري والمجتمعي الذي يضعنا دوما كنساء في وجه المدفع. كم يثقلنا المجتمع، كم ترهقنا الطبيعة.