عندما تكتظ الدولة بسكانها فهذا دليل نمو ولربما اتساع، ستكبر الدولة وبشيء من حسن الإدارة يمكن للاكتظاظ أن يتحول إلى عامل إنتاج، تماماً كما المياه المتدفقة التي كلما تزايدت كميتها وتسارع تدفقها تزايد منتوج الطاقة منها، أما عندما تضيق الدولة بسكانها، فهذه علامة خراب ودلالة على سوء الإدارة وإشارة إلى تفشي الأنانية والكسل اللذين يؤديان إلى تجمدها، فتبقى هذه الدولة بمرافقها في مكانها في حين تتجاوزها أعداد سكانها ويتخطاها الزمن وأفكاره وتحديثاته.
لربما أعظم الإشارات على حالة الضيق لا الاكتظاظ فقط التي نمر بها في الكويت هي الحالة المرورية الحالية، فإن ما يحدث اليوم في شوارع الكويت هو أزمة حقيقية ملحّة ستتحول إلى كارثة كبرى وفي وقت قريب إذا لم يتم تداركها في أسرع وقت.
أذهب إلى عملي الذي كنت أصله قبل ثلاث سنوات في عشرين دقيقة، بما يزيد على الساعة والربع كل صباح، لا فرق بين يوم وآخر إلا بتقوى رواد شوارعه، كم منهم يندفع أمامك أو يصبحك بنظرة شزر أو يضيق عليك خناق حارتك المرصوصة بسيارات لا تفقه لمعنى مسافة الأمان بين بعضها شيئاً، ولكن لا تبدأ مشكلتي الحقيقية إلا عندما تهلّ عليّ مباني الجامعة في كيفان من بعيد وأنا مقبلة عليها من شارع الصحافة، هذا الشارع الذي سدت مداخله إلى الجامعة بسور وشبك حديدي في الجانب الأيمن منه، مجبراً كل من يريد الدخول إلى الجامعة على الاصطفاف في طابور يفوق طوله عمر النبي نوح، بادئاً قبل الجسر المقابل لمباني الصحافة ومستمراً أسفل الجسر ومتطاولاً إلى مدخلها حيث الشريعة والآداب، فيكفي أن تلقي نظرة على الطابور الكئيب من خلف الشبك الحديدي السميك وكأنه طابور معتقلين منهكين في سجن مفزع ليس منه فرار حتى تصيبك الكآبة ويحط عليك الكدر.
مدخل الجامعة قصة أخرى، وسيارات الطلبة قصص قصيرة متجاورة في حزنها، يوقفونها على الأرصفة وفي منتصف مداخل الالتفاف وفي قلب الشوارع النحيلة أصلاً حتى تسد كل المداخل والمخارج، دون أن نستطيع عليهم نكراناً أو ملامة، فالوضع البائس يتطلب إجراءات بائسة. قبل أيام، وعندما وصل الوضع إلى تضخم يشي بالانفجار، بعثت الداخلية سيارة شرطة و”ونشاً” لسحب السيارات المخالفة، ولا أدري كيف تبين لهم الملتزم من المخالف في شارع اختفت كل ملامحه. المهم، تحرر الشارع بعض الشيء بعد أن سدته الشرطة بـ”ونشها” لما يزيد على الساعتين، ولربما تبين لهم أن هذا إجراء زاد طيننا المتراكم بلة، فلم يعودوا بعدها وتركونا لحال سبيلنا، نصارع صراعنا اليومي تحت رحمة الله. على مدخل الجامعة أقف ما يناهز الـ30 إلى 45 دقيقة دخولاً وخروجاً كل يوم، لتنتهي أزمة وتبدأ أخرى.
أعود أدراجي إلى منطقة عبدالله المبارك، المنطقة ذات المداخل الثلاثة، أحدها على الدائري السابع صعب الوصول مكتظ بشاحناته تقريباً كل وقت، والثاني على الدائري السادس بعد استاد الشيخ جابر، والثالث عند دوار الفروانية الذي يربط منطقتنا بطريق المطار. ماذا أحكي لكم عن مداخلنا؟ تذكرني هذه المداخل، خصوصاً ذاك الذي عند دوار الفروانية بحدود سورية ولبنان، بسياراتها المتراكمة المستلقية في نهر حديدي طويل كريه يجعلك تفكر في كل سواد الدنيا وأحزانها. بعد الظهر، تأتي سيارة شرطة وتقف في منتصف هذا الدوار لتفعل شيئاً ما، لم أعرف كنهه حتى الآن، ولكن ما أعرفه حق المعرفة هو أنها تقف في عرض الدوار لتمد في عمر النهر الحديدي الكريه وتبارك كثافته.
بطبعي أنا صبورة، أعمل من الليمون، كما يقول المثل الغربي، إذا ما ناولتني إياه الدنيا عصيراً لذيذاً، لذا أستغل وقت حبسي اليومي في سيارتي فأستمع لأغانيّ المفضلة، وأقرأ الجرائد، وأتابع “تويتر” وإنستغرام، وأتصل بمن غبت عنهم وغابوا عني زمناً، وأفكر هذه الأيام أن آخذ معي القمصان الحريرية التي تحتاج لغسيل يدوي “فأصوبنها” في السيارة استشماراً للوقت، ولكنني أرى مخزون صبري يقل كل يوم كما مخزون الأجيال القادمة من النفط، وأكاد أراني ذات يوم قد فقدت عقلي فتركت سيارتي في منتصف الشارع، ونزلت مهرولة على غير هدى. أعرف أن لكل منّا قصة تشابه وتزيد عن قصتي، لكل منا حكاية عن عمره الضائع في السيارة، وما هذه التفاصيل سوى إهداء لمسؤولينا أصحاب المواكب، نرجوكم بالله انزلوا يوماً إلى الشارع دون موكب، أي شارع وفي أي ساعة وفي أي يوم، فستجدون أن الحال أصبحت من المحال.
أستشعر عنفاً مقبلاً بسبب وحشية شوارع الكويت، ولكنني أكاد أراه حقيقياً عند بوابات الجامعة، حيث يفور الشباب والشابات من الانتظار، وحيث تتزاحم سياراتهم ومدرسيهم، وحيث تكتظ المداخل والمخارج بشكل عشوائي مريع. ليس لهذه الصورة سوى نهاية واحدة، وستكون مأساوية، فمن يستمع قبل فوات الأوان؟