هل هناك خطة إعلامية منظمة بين الدول العربية، الخليجية منها على وجه الخصوص، لتمرير فكرة التطبيع مع إسرائيل إلى الناس وتسهيل القبول بها؟ يدور الحوار هذه الأيام، تحديدا على إثر بث مسلسلين خليجيين هما “أم هارون” و”مخرج 7″، حول التوجه التطبيعي الإعلامي الخليجي، والذي انقسم جمهوره فيما يبدو من وجهة نظري البسيطة إلى قسم أصغر مناهض للتطبيع، قسم متوسط لا يبالي به، وقسم أكبر براغماتي التوجه، يرى أن التطبيع واقع وأن فلسطين المحتلة هي اليوم إسرائيل المعترف بها دوليا شئنا أم أبينا.
النظرة الأخيرة هذه، والتي لها سنوات تدور في المنطقة وفي الخليج تحديدا، تقدم نقلة نوعية حزينة في طريق القومية العربية، في طريق الثبات على المبادئ والحقوق الإنسانية. أحيانا أتخيل المبادئ وكأنها خبزة طازجة حارة، لذيذة في بداية تشكيلها، تمضغ على مضض حين يمر فوقها بعض الوقت، ثم تنبذ وتذهب شهوتها حتى لا يعود ممكنا حتى اشتمام رائحتها بعد أن يفوتها الزمن ويترك آثاره الخضراء عليها.
إنها طبيعتنا الإنسانية التي ربما هي تستمد الكثير من خصائصها من حقيقة قصر زمنها الواعي على هذه الأرض، ففي معدل الثمانين سنة التي نعيشها، تزيد أو تنقص، يصبح للزمن قيمة عالية جدا لا يمكن صرفها على ما نظنه مبادئ فاتها القطار أو مفاهيم ما عادت متحركة، لا وقت لدينا لإنعاش ميت، كفناه بخرق المصالح ودفناه عميقا أسفل طبقات من ضمير لزج ميت إكلينيكيا هو الآخر، لا يتحرك أو يتفاعل سوى بالريموت كونترول.
الوقت قصير والناس تريد أن تعيش و”الواقعية” جاهزة كتبرير. “يعني ماذا نفعل؟ ليس بيدنا شيء”. هي حبة الدواء المسكنة، أو “هم السبب، باعوا أراضيهم وتخلوا عن بلدهم” هي حبة الهيروين التي تقتل الوعي والضمير وتصل بصاحبها لفوق، فوق، حيث “العتمة الباهرة” والراحة التامة.
المهم، هل يا ترى تملك دول الخليج القدرة على حيك خطة إعلامية “هيروينية” لتخدير الشعوب، المائلة أصلا، وتمرير التطبيع من تحت أنوفهم؟ هل تحتاج هذه الدول لهكذا خطة؟ ولأنني من الجيل الذي كبر مع القضية الفلسطينية حتى تشكلت هوية في الروح، لأنني من ضمن المجموعة التي لا تزال تشتم رائحة القضية المبدئية طازجة شهية تبشر بعودة حقول أشجار الزيتون، أتابع باهتمام، ربما غير مستحق واقعيا، هذه المسلسلات بحثا عن آثار الخطة الشريرة.
“أم هارون”، والذي يؤرخ “خياليا” لحقبة خليجية كان لليهود تواجد خلالها في المنطقة، هو عمل لا أرى فيه آثار أي محاولة تطبيع. أولا، المسلسل أبسط من حيث إعداده وصياغته من أن يحمل هذا الهدف الخفي في أعماقه، ثانيا المسلسل خياليا يوتوبيا أكثر منه تأريخيا واقعيا حيث يبدو كأنه فانتازيا درامية ضعيفة البناء غير قادرة تركيبيا وروائيا على بيع فكرة حقيقية المدينة والتعايش الساذج لسكانها من مسلمين ومسيحيين ويهود.
في الواقع أجد للمسلسل حسنة مهمة وهي أنه يحاول بجد واجتهاد، رغم سذاجة التقديم، التأكيد على الفرق بين يهود الخليج والحركة الصهيونية في إسرائيل، وأن اليهودية كديانة هي منفصلة ومختلفة عن التوجه السياسي للكيان الصهيوني. المسلسل كذلك يؤكد على ارتباط اليهود بأراضيهم التي عاشوا عليها، مؤكدا أن الانتماء للأرض أقوى من الانتماء لعرابي الأديان الذين يحاولون تجنيد الناس دينيا وعسكرتهم مجتمعيا. فكرة التعايش الديني التي يعرضها المسلسل بسذاجة نصية وسطحية درامية لا تزال إيجابية كبيرة للمسلسل ورسالة مهمة يفترض أن تتبناها الأعمال الفنية ذات الصلة وإن بطرح أعمق وتوظيف منطقي أكبر.
أما مسلسل “مخرج 7” لناصر القصبي فقد خلا من الفحوى السياسي والاجتماعي النقديين المعتادين في أعمال القصبي ليتخذ مساحة فنية فارغة تعتمد على طرفة اللحظة، وكوميديا الموقف، دون أي عمق حقيقي أو رسالة حقيقية مهمة. تتوزع على حلقات المسلسل هنا وهناك لحظات تلميحية اجتماعية أو سياسية مثل مثلا التلميح تجاه مواضيع قيادة المرأة، لبس العباءة، الحريات الشخصية، العلاقات الرجالية النسائية، إلا أن أوضحها كانت دقائق ناقشت فكرة التطبيع مع إسرائيل والتي من خلالها تكلمت إحدى الشخصيات حول أن أمر التطبيع واقع وأن إسرائيل قوة في المنطقة وأن العدو الحقيقي هو من يتحدث بالسوء في ظهرك، في تلميح طفولي الأسلوب تجاه الخلافات الخليجية الحالية.
الدقائق هذه كانت من أول وهلة واضحة الاتجاه التطبيعي، إلا أن المحير فيها أن هذه الجمل التطبيعية جاءت على لسان شخصية محتالة في المسلسل، تقدم نموذج لا أخلاقي وإن بقالب كوميدي مضحك، فإن كان المقصد ترويجي، لماذا تذهب إليه الشخصية الوحيدة المخادعة النصابة في المسلسل؟
آخر حلقة في المسلسل، حتى كتابة هذا المقال، هي الأسوأ على الإطلاق، وهي حلقة تعاملت مع موضوع المثلية في إطار تسفيه وتحريض، عوضا عن التحليل والمعالجة، ودون أي فهم للموضوع بل وخلطه بمواضيع أخرى كالتحول الجسدي (حالة طبية) والتحول المظهري (حالة اجتماعية) مما توه المعنى، اختلط بالتحريض الصريح، وانتهى بموعظة منفرد للقصبي ساذجة وسيئة الصياغة.
بعد كل ذلك يبقى السؤال الإشكالي خصوصا بالنسبة للمتخصصين في مجالات الأدب والفنون وللمدافعين عن الحريات الفكرية والأدبية الفنية، هل من المقبول مبدئيا منع عرض عمل فني لأن فيه تلميح باتجاه، برأيي، سياسي أو أخلاقي غير مقبول؟ هل يفترض بي، وكل ذرة في جسدي ترفض مجرد التفكير في مهادنة عدو، أن أذهب حيث تذهب مشاعري وعواطفي ومبادئي الشخصية فأؤيد منع أو حجر عمل ما مهما بلغت وقاحة موضوعه ولا مبدئية فكرته؟
نصفي الليبرالي يقول تلك هي خيانة عظمى لمبدأ الحرية الفكرية التي يفترض بها أن تجبرك على تحمل وجود كل رأي تفزع منه نفسك، فيما نصفي القومي يقول تلك هي مهادنة وهذا هو تراخ في التعامل مع قضية عمري الإنسانية. فلأي النصفين أستمع، وبأي المبدئين ألتزم؟
لا أستطيع سوى التأكيد على الحرية الفكرية المقدسة عندي برفض كل شكل من أشكال الرقابة وفي ذات الوقت لن أتمكن سوى من محاربة العمل الفني المخالف لمبدئي بكل ما أملك من أسلحة الفكر والجدل بعد أن يعرض. كأنني أفسح المجال للمعضلة ثم أحاربها، هل من منقذ؟
*إشارة إلى رواية “تلك العتمة الباهرة” للأديب الرائع الطاهر بن جلون