عبوة

متى بدأ سوق صناعة الجمال ينتعش في التاريخ البشري؟ كثيرا ما يحضرني هذا السؤال، حول الجمال كسوق وصناعة، تحديدا وأنا أتمشى في الأسواق، أناظر كل أدوات ومساحيق ومكملات الجمال التي أخذت علينا حيواتنا حاليا لتغير وجه مداخيل الأموال اليوم لتصبح صناعة العطورات ومساحيق التزيين وطب التجميل هي من أعلى مصادر صناعة الأموال في العالم.

أسمع أن أصغر الأخوات كارداشيان هي أثراهن وذلك لأنها بدأت علامة تجارية لأدوات التجميل لا تحمل الكثير من المنتجات في الواقع، إلا أن منتجاتها القليلة تلك وضعتها على رأس قائمة ثراء الكارداشيانيين.

يذهب تاريخ صناعة الجمال البشري إلى حضارات الهند ومصر القديمتين، حيث يقال إن أول عمليات تجميل بمعناها المعروف أجريت إبان زمن الحضارة الهندية القديمة، فيم وجد المنقبون علب كريم في أرض الكنانة تعود إلى العصر الفرعوني والتي تتشابه تركيبتها إلى حد كبير جدا مع تركيبات الكريمات الحالية التي تستخدمها سيدات اليوم.

إلا أن السؤال الأهم حول الموضوع تطرحه في الواقع الدكتورة مشاعل الهاجري، عضو هيئة التدريس في كلية الحقوق بجامعة الكويت وكاتبة العمود الصحافي المميز، على حسابها في انستغرام حيث كتبت قائلة “مع كل هذه العمليات التجميلية والبوتوكس والفيلر والمستحضرات التجميلية، صرن الجميلات كثر. ما أثر ذلك على ذائقتنا؟ الوفرة من جهة والصناعة من جهة أخرى، هل تناقضان الجمال؟ ألا يرتبط الجمال بالندرة وبالطبيعة بالضرورة؟ وماذا عن التشابه، هل ينحدر تماثل الجميلات بالجمال كقيمة؟”.

في رأيي، فإن وفرة وتشابه قيمة الجمال الوجهي وحتى الجسدي اليوم بلا شك سيغير تعريف الجمال عموما والطريقة التي نقيم بها مقداره وعمقه ونوعيته. ولقد قرأت في إحدى المرات تعليقا تويتريا يقول إن الأنوف الحقيقية أصبحت اليوم مثل الآثار المهمة التي يصعب التحصّل عليها؛ مما يعني أن قيمة الجمال الشكلي المعتمد تقييمها دوما على عامل الندرة، وهو عامل يصعب في رأيي التخلي عنه، ستعتمد من الآن وصاعدا ليس على مقدارها ومقاييسها ولكن على حقيقيتها وندرتها.

نجد أن عامل الندرة هذا مثلا هو المسيطر على تقييم الأعمال الفنية الأثرية القديمة، حيث أن ندرة توفرها، خصوصا في الحقب السابقة للحضارات البشرية المعروفة، جعل من كل ما يتم اكتشافه منها قطع فنية رائعة الجمال، لا مجال للمفاضلة الفنية بينها. لقد شكلت الندرة، وعامل الزمن بكل تأكيد، معيارا جماليا هاما أسبغ روعة وجلالا على هذه القطع الفنية مهما كانت ركاكة رسمها أو صنعها.

وعليه، سيتغير معيار التقييم في زمننا الحالي بكل تأكيد، ولربما من ذاك المهتم باستواء الأنف وصغره، على سبيل المثال، إلى ذاك المركز على طبيعيته التامة وندرة تشابهه بالأنوف الأخرى، مما قد يحول الأنوف المعقوفة الكبيرة إلى علامات جمال نادرة ستتمناها الساعيات لهذا الجمال في المستقبل القريب.

وعليه، ستتغير الذائقة البشرية الجمالية حتما، كما وسبق أن حدث على مر العصور. ففي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كانت الحواجب الرفيعة جدا هي علامة جمال هامة، إلى أن ظهرت بروك شيلدز في السبعينيات من ذات القرن بحواجبها السميكة المغايرة تماما لتحدث جلبة قادتنا اليوم لكل عمليات الرسم والتاتو للحواجب الآخذة في التغلظ والاتساع حد عدم التصديق.

سنتشبع تماما من الأنوف الخنسائية والخدود الممتلئة وعظمة الخد المرتفعة وفك الفم النفرتيتي وحواجب العينين السميكة السيفية (من شكل السيف)، وستصبح هذه المقاييس المنتشرة مع الوقت عادية إن لم تكن منفرة بتكررها الذي ستوفره تكنولوجيا متطورة ما كانت موجودة من قبل.

وقياسا على تاريخ ذائقتنا البشرية، سنتحول بعد التشبع إلى المقاييس النادرة المعاكسة في الاتجاه، إلا أن عامل التكنولوجيا سيتدخل من الآن وصاعدا بشدة وقوة، ليقصر عمر المقياس الجمالي بسرعة صناعته وانتشاره على الوجوه.

وهكذا، كلما صنعنا مقياسا جديدا، ستحطمه التكنولوجيا بالإسراع في تحقيقه وبتيسير انتشاره، فإلى أين ستصل الذائقة البشرية وكيف ستتعامل مع سرعة ووفرة ولربما الرخص القريب للتزين والتغيير الشكلي؟

تقول د. الهاجري في نهاية تعليقها “صار الجمال رخيصا، رخص عبوة” ولكن هل تتحمل هذه القيمة الشكلية هذا الرخص المالي وهذا الانتشار وذاك التكرار الذي حول الوجوه إلى نسخ قريبة من بعضها تاهت بينها الهويات البيولوجية الحقيقية؟ ليقودنا هذا السؤال لسؤال يليه: ما مقدار تأثير بيولوجيتنا الحقيقية على هويتنا النفسية؟ هل ستكون ذات الشخص تماما ذي الأنف المعقوف بعد أن يستقيم أنفك ويصغر ويتنمنم؟