لم يكن ما حدث متخيلاً، لم يكن ليخطر على البال. للطبيعة قواعدها، يغادر الكبار قبل الصغار، الأهل قبل الأبناء، المعلمون قبل الطلبة، هكذا يفترض في الدنيا أن تكون، هكذا يفترض فيها أن ترتب صف المغادرة، هرمياً، من الأكبر إلى الأصغر، فلا يفترض بنا أبداً أن نشهد مغادرة الصغار، أن يودعونا فيضعون الكمد والحزن في أكبادنا أمراضاً مزمنة لا تزول.
لكن للقدر أحكامه المجنونة، وللقضاء ساعة وأوان، فكان أن ذهبتُ أعزي في طالبي وولدي منصور، في حين كان يفترض أن يعزي فيّ ولو بعد حين. اختل ميزان الطبيعة في لحظة، وغافلني القدر ليبدل أماكننا، فكان أن دخلتُ بيته وقد تحطمت بي الآمال، وتراكمت في قلبي الآلام على فقد غير مفهوم، والقيام بواجب ما كان يفترض بي أن أقوم به. غامت الدنيا في ظهيرة الكويت الحارة تلك، وبدا كل شيء بطيئاً غريباً غير ذي سياق مفهوم، وكأنني أشهد تسجيلاً مصوراً يجري شريطه ببطء وتفكك ليزيد من العذاب واللوعة والغربة.
خمسة وعشرون سنة هي كل ما عاشها منصور على سطح هذه الأرض، فتى من أجمل وأطيب الشباب الذين عرفتهم الجامعة، وأشدهم دماثة وأدباً. كنت للتو قد انتهيت، أنا وعدد من أساتذة قسم اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعة الكويت، من كتابة أوراق تزكية له لاستكمال دراسته العليا. كنت متأكدة من أنه سينجح نجاحاً باهراً وسريعاً ليتخذ مقعده بجانبنا في القسم، كنت أعرف حبه للشعر وانطلاقة روحه في النصوص الأدبية، فتخيلته، طالما تخيلته، شاباً أديباً مميزاً متسارع الخطو عن كرسيه الأكاديمي لرحاب حياة أدبية أوسع، فكيف يا ترى اقتنصه الموت في غفلة منا جميعاً؟ كيف نستمر وقد رقد رقدته الأخيرة؟
حين أقبلت وزميلتي على والدته نعزيها، ناحت بصوت لا نغم له سوى الألم، وكأن الوجع اتخذ شكلاً مادياً متدفقاً من حنجرتها. قرفصتُ عند ركبتيها وقلت لها: أيا أم منصور، فقدته وفقدناه، لكننا لن نحزن على منصور حزناً عادياً، فمنصور لم يكن فتى عادياً. يا أم منصور، ستتخلد ذكرى منصور في القسم الذي أراد أن يعمل فيه أستاذاً، أعدك بذلك. عندها، أمسكت بكتفي لتخرج من فيها آهة طويلة ممتدة برنة نياح خافت، وليميل رأسها إلى آخر ظهر كرسيها، وكأني بها للحظات قد تقطعت بها الأنفاس، لتعود سريعاً ملقية رأسها على كتفي هاتفة: الله يصبرك يا دكتورة، الله يصبرك بفقد منصور. انفجرت مقلتي على كتفها، وتشبثت بها كأني أحاول إخراج منصور من قلبها الذي طوى ابنها وأحزانها. بقينا متشبثتين معاً للحظات، لا نعرف كيف نفك تشابك آلامنا. ماذا بعد أن نتباعد؟ ماذا بعد أن أقوم عنها وأغادر، سينفلت من بيننا منصور مرة أخرى، فهلا بقينا معاً ثانية أو ثانيتين؟
تلقفتني النساء المتشحات بالسواد، لهجت ألسنتهن المخلصة بالدعاء وبالمساندة وبالتذكير بأن منصور عاد لخالقه، وهو لا يعز على خالقه. وقفت ضائعة وقد تدافعتني بعض الأيادي بحنان، وحلقت بي الفكرة: ولكن لم الآن؟ لمَ يسترده الخالق الآن؟ استعذت من نفسي ومن وجع تساؤلاتها، وأرخيت يميني لسيدة لطيفة قادتني إلى باب البيت، وأترك خلفي أم منصور نائحة بدعواتها: اللهم ثبت منصور، اللهم أوسع منازله، اللهم أنزله منزل الجنة، اللهم خفف عنه، ولدي، ضناي، فلذة كبدي، راضية عنك يا منصور، راضية عنك يا منصور، راضية بمغادرتك يا ولدي، اللهم ثبته عند السؤال، اللهم استودعتك إياه. والنساء خلفها يرددن: آمين، آمين. وأنا في تيه اللحظة كأن اللغة غابت عن أذني، وكأني لا أفهم ما أسمع، أو أفهم ولكن لا أسمع، لا أسمع سوى سؤالي الذي كان غاضباً وبات متخاذلاً أمام صبر أم منصور: لماذا؟ لماذا الآن؟
عند الباب ودعتني السيدة الحنون التي أسلمت لها يميني قبل دقيقة، قائلة: لقد كان ابن موت، مثله لا يعيش طويلاً في الحياة. الآن فقط فهمت هذه الجملة التي طالما سمعتها مترددة في الأفلام أو بين النساء الأكبر سناً ضاحكة على سذاجة وغَيْبِيّة معناها. كنت أفهم المعنى الحرفي للجملة بلا شك، لكنني لم أستشعرها أو أصدقها، لم أفهم معناها العاطفي. اليوم فقط فهمت، فهمت معنى أن يعز البعض من الأنقياء على الحياة، معنى أن الحياة ليست لمنصور وأمثاله وأنه ليس للحياة، فهذا الفتى باستثنائيته، بدماثة خلقه ورحمة قلبه ونقاء لسانه، بصوته الخفيض وابتسامته الطيبة وعينيه النقيتين، ما كان ليكون معمراً كثيراً في هذه الدنيا، لن يتحملها ولن تتحمله، فغادرها سريعاً مقدماً موعده عن مواعيدنا جميعاً، مفسحاً لنا المزيد من الوقت، مخلفاً لنا المزيد من الحياة لنحياها، وهل نتوقع أقل من ذلك منك يا بُنيّ، يا منصور؟
وفيما قلبي يضخ دماء حزن فاضت، وفيما أم منصور تنوح برفق وكأنها تخشى إزعاج ولدها المرحوم الهادئ الشفيق الرحيم، تبدت صور الأمهات الفلسطينيات الثكلى في الهواء، على الجدران، على مقود السيارة، في سماء ساعة المغربية التي غادرت إبانها بيت منصور. آه يا أم منصور، فقدنا الحبيب الغالي لكننا التممنا على بعضنا نطبب الجراح ونبحث عن المواساة. هناك يا أختاه، في فلسطين الغالية، يرش العدو المتوحش الملح على جراح الثكلى، يعمل خنجره ليس في صغير أو اثنين، بل يطعن تتابعاً الكبار والصغار حتى لا يدع أحداً من العائلة باقياً ليدفن وينوح ويستقبل العزاء.
هناك يا أم منصور، يموت الأبناء. حفظ الله لك الأبناء والبنات، ورحم أخاهم منصور وأحسن مثواه، الواحد تلو الآخر وكأن العدو الحقير يريد أن يحرق القلوب توالياً قبل أن يقضي عليهم جميعاً. أعلم أن ألم فقد الضنى واحد، لا أقلل من عذابك ولا أتهاون في فجيعتك، لكنني أذكر نفسي وأذكرك، بأمهات ثكلى فجيعتهن لا وصف ولا حد لها. ولأن الأم بالأم تذكر، ووجع قلب الأم بوجع قلب أخرى يتماهى، أذكر نفسي وأذكرك بأوجاع أمهات لا يمكن تخيلها، وأدعو معكِ أن يا رب، طبب على قلوب الأمهات بجميل الذكريات، ويا رب أوسع مدخل من رحل إليك من الأبناء وقد تخطوا الدور وسبقوا حين كان الأجدر بهم أن يحيوا ويسعدوا، يا رب أفسح لهم في خلدك وأحطهم برحمتك وخفف عن قلوب أمهات يمتن أحياء بالفراق في اليوم ألف مرة.
في أمان الله يا منصور، إلى أن نلتقيك. خذ في حضنك الدافئ أطفال غزة، قل لهم من الشِّعر الذي تحب، غنّ معهم طيوراً في السماء. إلى أن نلتقيك وإياهم يا حبيبي..