بغض النظر عن الإلحاح والتسويق الغربيين لموضوع التعدد الجندري، وتعديا للمبالغة الهوليوودية التي تبلغ السماجة أحيانا، لو تخطينا بنظرنا للحظة هذا الترويج الاجتياحي فسيكون التساؤل المهم هو هل نقبل أن نكون معزولين عن الحوار العالمي حول الموضوع؟ هل من صالحنا، من صالح قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا التي تتغنى بها مجتمعاتنا فيما هي تعاني من ثقلها واستبدادها وتناضل لكي تتعايش بها رغم عدم صلاحية معظمها في عالم اليوم المعاصر، أقول هل من صالحنا وصالح هذه القيم أن نختفي من ساحة الحوار وأن نتصرف وكأن هذه الحالة البشرية غير موجودة وبالتالي نحن غير معنيين بمناقشتها؟ كيف نقبل أن نصم آذاننا ونقطع دابر كل حواس أبنائنا وبناتنا، من سمع وبصر، عما يدور حولنا وحولهم في العالم، فنعيش في عزلة ثقافية واجتماعية وإنسانية؟ أي محاول بائسة يائسة مضحكة هي تلك؟
يتم تناول التعدد الجندري في الأبحاث العلمية والنفسية والفلسفية بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة منذ سنوات عدة، لربما منذ بدايات القرن العشرين الذي بدأ يتعامل بحثا وتمحيصا مع تلك الحالة التنوعية الملازمة للبشرية منذ فجر ظهوها على سطح الأرض والتي طالما كانت محط إهمال وتجاهل، وفي الأزمنة اللاحقة، عرضة للتعامل العنيف الكاره. تتعامل الكثير من هذه الأبحاث مع فكرة أن البشر لا يقعون تحت هذا التقسيم البسيط لجنسي الذكر والأنثى، وأن استشكالية هذا التقسيم قديمة، حيث أن هناك مجتمعات غائرة في القدم كان، ولا يزال، لديها تقسيمات تفوق هذا التصنيف للجنسين، فالقارة الهندية لديها تقسيمات على سبيل المثال قد تصل إلى خمسة تقسيمات جنسية وجندرية. كذلك، هناك حالات بشرية بيولوجية مختلفة ومتنوعة تركت العلماء حيارى في موضوع التصنيف والتأطير، ففي حين أن التقسيم الكروموسومي واضح وتدليلي، إلا أن المتغيرات كثيرة: هناك بشر يولدون بأعضاء جنسية متعددة، وهناك من يولدون بلا أي أعضاء جنسية، هناك إناث تولد بلا مبايض أو رحم، وهناك منهن من يفقدن هذه الأعضاء لاحقاً في الحياة، ومثلهن الذكور الذين يولدون بلا أعضاء أو يفقدونها لاحقاً. هناك بشر يولدون باختلالات هرمونية قد تغير المظهر الخارجي للجنس المحدد للإنسان، وقد تكون متضادة وشعوره الداخلي الهوياتي، إلى آخرها من حالات علمية طبية لا يملك فيها البشر خيار. كيف نصنف هؤلاء البشر، وأين يقعون على “طيف” الأنماط المطوقة بالمحدِّدَين الأقصيين الذكر والأنثى؟
محظوظ من يولد معرّف الهوية، منسجم شعوره ومظهره الخارجي وتوصيفه الجندري، إلا أن ليس كل البشر محظوظين بضرباتهم الجينية بذات الصورة، وعدد غير المحظوظين يفوق تصورنا في الواقع. وعليه، وفي القرن الواحد والعشرين حيث بلغت الأبحاث العلمية مبلغاً بهياً، يفترض أن يحاول البشر، فقط محاولة، فهم هذا التعدد والتنوع البيولوجيين والنفسيين. ليس المطلوب القبول والرضى، هذا لن يتحقق بين البشر حتى آخر الزمان تجاه أي قضية لها ماض شائك كماض القضية الجندرية ولو تجلت الأدلة العلمية والطبية دامغة ورؤيت رؤى العين كالشمس بازغة في ظهيرة صحراوية صافية. لذا فإن أضعف الإيمان هو أن نفهم، أن نتثقف، أن نعرف، على سبيل المثال لا الحصر، أن هناك فروقا بين المثلية، والعبور الجنسي، والعبور المظهري، إلى آخرها من أنماط، بعضها علمي بيولوجي، وآخر ثقافي اجتماعي، حتى نبني القبول والرفض على حد أدنى من الفهم والتمييز.
هناك رفض شاسع في العالم العربي الإسلامي لمجرد التناول العلمي للموضوع، لمجرد التساؤل عنه أو البحث فيه، وكأن هذا العالم يخشى ما سيكتشف، كأنه يخاف الإفصاح العلمي وما سيحمله من مسؤولية تكييف القراءات المجتمعية والدينية مع النتائج العلمية، وهو تكييف قادم لا محالة في كافة المواضيع العلمية البيولوجية، مع اكتشافنا المستمر لتنوع أنماطنا البشرية ولغرابة الأسرار التي أخفاها جنسنا عن نفسه على مدى تاريخ طويل قمعاً وتنكيلاً في المختلف الخارج عن إطار التصنيف التقليدي.
علينا أن نسأل أنفسنا، ماذا لو أتى العلم بالدليل الدامغ على حقيقية وبيولوجية هذا التنوع الجنسي؟ بكل تأكيد هناك اختارية في الموضوع، وهي اختيارية متروك قدر أصحابها وقبولهم للمجتمع الذي يحتويها ويحتويهم ومستوى ضمان الحريات والحقوق فيه، إلا أن المأزق سيكون في الحالات المفروضة بيولوجياً، حيث بدأ العلم يَجِدُّ في هذا الطريق، ونتائج بعض الأبحاث، رغم أنها غير نهائية، هي سائرة على طريق كشوفات غير مسبوقة، فماذا سيكون الموقف إذا ما اتضح أن هناك تفسير علمي للميول البشرية المختلفة ونحن لم نبق لأنفسنا منفذا ننفذ منه باتجاه مثل هذا التطور العلمي والفكري، لم نترك الباب ولو موارباً بعض الشيء حتى نستطيع تبرير التغييرات القادمة والتي لربما ستفرض على البشرية كلها فرضاً علمياً ودلائلياً؟ لماذا نفرض على أنفسنا عزلة ليست فقط مضرة ولكنها ستكون غاية في الإحراج في القادم من الأيام؟
مرة أخرى، في هذه المرحلة، ليس المطلوب لا القبول ولا الترحيب، المطلوب التثقيف والاستيعاب، وبكل تأكيد المطلوب الحتمي والمفروض فرضا لا يحتمل النقاش أو المساومة هو حفظ أمن الجميع كبشر لهم حقوق مقدسة مكفولة على أراضيهم، قَبِل بهم المجتمع أم لم يقبل، رحب بهم أم لم يرحب، اعتقدهم آثمين أم لم يعتقد. حيوات وأمن وحقوق الناس لا نقاش حولها ولو ظنهم المجتمع أسوء المذنبين. الحساب الأخروي له وقته ومكانه المتعدي لهذه الحياة. هنا، في هذه الحياة، حقوق وأمن وحفظ للكرامات، ولا شيء أقل من ذلك. بالعموم، من المفيد لنا والواجب علينا أن نكون كلنا جزء من الحوار العالمي، نفهمه ونضيف إليه، ولو اختلافاً وتضارباً، ونتناقش حوله ونتثقف في فحواه. أما المنع والكتم فهو أشبه بمحاولة إخفاء برق السماء بطرف الإبهام. نحن نعيش في عالم اليوم، وعلينا ومن صالحنا أن نكون جزء منه، بما نعتقده من حسناته وسيئاته.