تثور هذه الأيام قضايا حقوق الأقليات حول العالم بأكمله، فجائحة الكورونا كشفت كل الخطايا الإنسانية الكامنة، تلك التي ترقد في قاع قِدر الحضارة الإنسانية، عفنة خربة، مختفية أسفل طبقات من الطبخات الإنسانية الجميلة المتجددة. في الغالب، ينظر البشر لوجه الطبخة فقط، فنلحظ جمال الشكل وجميل الصنع، نادراً ما يضرب أحدنا لعمق القِدر ليكتشف ما يكمن في الأسفل، ليكشف عن قضايا وأصحابها من البشر الذين خلفتهم الحضارة الإنسانية خلفها وغطت وجه معاناتهم بطبقة علوية مقرمشة شهية الشكل.
فمن حقيقة حياة الفقراء والعمال الذين تلقوا الضربة الأقوى والأوجع من الجائحة، إلى عنصريات اللون التي لا تزال تهيمن على العقلية البشرية، إلى أوضاع النساء المهملة حول العالم، إلى قضايا اللاجئين في الدول المختلفة وعديمي الجنسية والمقيمين في غير دولهم، وصولاً إلى معاناة أصحاب الهويات الجنسية المتعددة الذين هم المجموعة الأقدم بشرياً والأكثر اضطهاداً على مر عصورها. ولقد تزامن ظهور عدد من قضايا المتحولين جنسياً في منطقتنا العربية مع مواقف عالمية أخرى تجاه القضية، لربما آخرها يتكشف في مجموعة من التغريدات التي نشرتها الكاتبة الشهيرة جي كي رولينغ، صاحبة سلسلة هاري بوتر، التي كان لتغريداتها تداعيات كبيرة، كتب على إثرها بطل كتبها، دانييل رادكليف، يؤكد تضامنه الإنساني مع المتحولين ورفضه لتصريحات رولينغ. وفي الواقع، لا ترقى تصريحات رولينغ لرد الفعل المضاد. تصريحاتها، حسب ما تابعت، انصبت على التأكيد على الأنوثة، مطالبة ضمنياً بإطلاق كلمة woman على المتحول من الذكورة للأنوثة. إلا أن تعبيرها الذي جاء ساخراً، بدا وكأنه يحمل في طياته استهزاء بمن اختلطت هويته الجنسية أو بالمتنقل من هوية إلى أخرى، وقد ألهب هذا المعنى الحساسية المبالغ بها عند الشعب الأمريكي تجاه «الصوابية السياسية»، فخلق حملة شعواء على الكاتبة ما زالت تعاني من آثارها.
هذا الحوارالغربي، أياً كان الطرف الذي تجد نفسك تميل إليه، يبدو بعيداً جداً عن واقعنا، فهو حوار يضرب عميقاً في قِدر البشرية ليكشف عن المكامن المظلمة فيها، فيما نحن لا نقوى على هذا الكشف ولا نرقى إلى هذا الهبوط إلى الأعماق والتعامل مع ما نفضله مستوراً غائباً، كأنه غير موجود. نحن شعوب التجاهل، ما لم نعتد عليه نتجاهله، كأنه لا يكون. وإن فرض نفسه علينا بصورة أو بأخرى، حاكمناه بقطعية ونهائية، وقطعنا رأسه بحد السيف. ولا أصعب علينا في هذه البقعة الغريبة من العالم من التعامل مع متنوعي الهوية الجنسية الذين فرضت عليهم الظروف البيولوجية أو النفسية واقعاً مختلفاً عن واقعنا، واختيارات في الحياة قد تكون متباينة ومتضادة مع الاختيارات المتوقعة من «مظهرهم» والمفروضة عليهم بحكم «تصنيفهم».
فإذا كان الحديث عن المتحولين جنسياً، بحكم واقع فسيولوجي أو هرموني أو نفسي مفروض عليهم، هو حديث شائك وخطر، فما بالنا بالحديث عن الحالات «الإرادية» الأخرى؟ وهل يمكن أن نصل بالحوار في يوم إلى مرحلة مناقشة حق الإنسان في تحديد هويته الجنسية كما هو اليوم يستطيع، علمياً وطبياً وتجميلياً، وتحديد هويته الشكلية واللونية تغييراً لمظهره إلى حد كبير وبعيد؟ تبدو هذه «طفرة» نقاشية نوعية بعيدة في مستقبلنا البشري الشرق أوسطي، فهي تحتاج إلى نقلة مختلفة، إلى انعطاف حاد، وتدخل طبيعي، قدري، أو حتى كارثي، يفرض علينا أن ننظر بالعيون الكثيرة التي نغمضها، وأن نواجه بالوجوه الكثيرة التي ننكسها، تلك الحقائق المفروضة على جنسنا بحكم طبيعته البيولوجية والنفسية، وأن نرضخ لفكرة تعددنا وتنوعنا الشديدين اللذين لم تجاريهما بعد كل الفلسفات والأفكار والمعتقدات الإنسانية، ولم يفصح بعد عن كل أسرارهما الطب وعلومه المختلفة.
إن الوصول إلى هذه المرحلة من التصارح مع خطايانا التاريخية وأخطائنا الحكمية والتقييمية وجهلنا المدقع كبشر عبر الأزمان وعنصرياتنا المخجلة المتغذية على هذا الجهل، كل هذا يتطلب كمية غير مسبوقة من الحرية والمصارحة، وهذه نكرهها أكثر من كرهنا لمن يأتي للدنيا بحالة جسدية أو نفسية تثبت خطأ تصوراتنا ومفاهيمنا. الحرية الفكرية والمصارحة التاريخية تعني إقراراً بالكثير من الخطأ، ومن منا مستعد لذلك؟ هذا، وإعادة التفكير والتقييم في الطبيعة الإنسانية، والتعدد الجندري، اللذين قد يصلان بنا -كما تقول الكثير من الأبحاث الحديثة- إلى ضرورة إعادة تقييم مفهوم تقسيم البشرية أصلاً إلى ذكورة وأنوثة، كلها ستتطلب تغييرات لمفاهيم حياتية راسخة، مثل مفهوم الأسرة، معناها وتكوينها، وستحتاج إلى إعادة قراءة الكثير من المعتقدات الدينية والتاريخية ليتضامن معناها مع ما قد يصل بنا إليه العلم. ولأن كل عاداتنا وتقاليدنا ومفاهيمنا الدينية وقوانين أحوالنا الشخصية مبنية على تقسيم شطري حاد بين أنوثة وذكورة، يمكننا أن نتخيل صعوبة إعادة التفكير والتقييم الفلسفي والعلمي، دع عنك عسارة خطوة التغيير الحقيقي. الطريق طويل.. وإلى أن نصل، سيسقط الكثير من الضحايا.