ضفيرة

كنت سأتابع الكتابة حول السياسة الإيرانية وشيعة الخليج، كنت أفكر في مقال حول ثورة المرأة على القراءات الدينية، كنت أود أن أناقش تاريخ اللغة في القرآن والوجود السرياني فيه، عشرات الأفكار تحوم في رأسي كلما اقترب موعد ملاقاة قراء «القدس العربي»، القدس الجريدة، القدس المدينة، الإسم الذي ينازعني كلما جلست لأكتب، يوخز خاصرتي كلما بهرجت الكلمات على الصفحات، أي موضوع يستحق أن نكتب والقدس في الأغلال؟
ولكن الدنيا تسير ونحن نسير، ننسى بسبب البعد الجغرافي والمسافة الزمنية واعتياد ما لم نتوقع اعتياده، هي الطبيعة البشرية الغريبة، الرحيمة ربما؟ اللئيمة ربما؟ لكنها طبيعة بشرية أن ننسى ونمضي في الحياة.
لكن كيف نكتب وكيف نمضي وعدوى الألم والوحشية والموت تنتقل وبأبشع وأفظع صورها من القدس، من بغداد، من تاريخنا الدامي بطوله وعرضه الى حلب وأخواتها من المدن السورية؟
كيف نهتم بقصة، كيف نروي حادثة، كيف نحلل خبراً، نناقش تاريخاً، ننقد فكراً ولنا هناك دم يسيل كما لم تسل الدماء وكرامة تهدر كما لم تستبح الكرامات؟ حلب المعذبة، التي وصفتها الغارديان بـ»المقبرة الضخمة» وبـ»مكان يشبه نهاية العالم»، كيف نحكي عن غيرها وهي تطالعنا بوجهها الدامي وأطرافها المبتورة، بنسائها ورجالها يجلسون فوق أكوام من الذكريات، أكوام خربة كانت بيوتاً سعيدة ومزارع نضرة، كانت حارات وشوارع، كانت جيراناً وأهلاً وأسواقاً أثرية، كانت حياة تضج وقلوباً تنبض، كانت دنيا عريقة قديمة سالمة آمنة؟ كيف نحكي عن أي شيء، نهتم بأي شيء، وحلب تقف بصغارها في مواجهة نار حارقة تمطرهم بها السماء لم يستطع حتى البرد القارس أن يخمدها، في وجه رياح جليدية لم تستطع كل نيران الحرب أن تدفئها؟ غريب هو القدر في سن سكاكينه مجموعة، وكأني بالشتاء القارس والنظام المتوحش يتنافسان فوق أرض سوريا، أيهما يخطف أهلها أولاً.
كيف نكتب عن حلب؟ نحلل؟ نبرر؟ نتنبأ؟ نقارن؟
كل كلام يصغر أمام المأساة، أمام صغير يموت برداً أسفل غطائه الرقيق، في مواجهة ضفائر طفلة ما عادت تطول بعد أن أوقفتها قذيفة ودفنتها تحت أكوام الرمل والصخر. هو نظام متوحش، هي معارضة متطرفة خطرة، هو مزيج من الإثنين، في كل الأحوال تبقى الكارثة مفزعة بشرياً، المروع فيها هو انطفاء ضمائرنا قبل حتى أن تنطفئ حرائق الحرب، واشتعال طائفيتنا ونزاعنا المذهبي البغيض على الرغم من برودة الريح وثلجية الموت. مخزٍ أن يموت السوريون ونحن نتنازع أجسادهم، نكومهم فوق بعضهم في تصوير لأبشع جوانب إنسانيتنا، جسداً فوق آخر نصعد عليهم بحججنا لنثبت أننا على حق والآخر على باطل. آلاف الفيديوهات والصور، كل واحدة منها مذيلة بتعليق يتذكر الأسد، يتذكر روسيا وإيران، يتذكر «الروافض» و»النواصب»، أقل القليل منها يتذكر القميص المنزوع والضفيرة المقطوعة والجسد الصغير وقد عجنته القذيفة بأرض بيته، يأبى هو أن يغادر، يصر أن يبقى بذرة معجونة بالرمل والدماء، لربما تنمو وتثمر ذات يوم.
وماذا بعد؟ ماذا بعد أن اعترف بان كي مون بأن «التاريخ لن يغفر ما وقع»؟ قبل أن نقول ونحلل، قبل أن نلبس الحلل المنشاة ونظهر على الشاشات نستنكر ونشجب ونكذب، لا بد من المطالبة الفورية بوقف لإطلاق النار، ولا بد من عزل مباشر لنظام أصبح بينه وبين مواطنيه بحور دم، ملايين الثارات، ملايين النكبات، ملايين البيوت الخربة، ملايين القصص والحكايا، ملايين الفيديوهات والصور، كل هذه تقف بين هذا النظام الذي غسل وجهه وكفيه بالدم وبين أهل سوريا، بل بينه وبين الإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة.
أن نرسل الأطعمة والأغطية والمعاطف والوشاحات هو عمل متعاطف، لكنه أشبه بضمادة على عملية قلب مفتوح. اليوم لا بد أن نرسل شيئاً أهم وأكبر، صرخة غضب، لاءة رفض، إصرار على إيقاف حمام الدم هذا بإغلاق صنبوره. الموضوع يبدأ من النظام السوري وينتهي به، فحتى مع الإقرار بوجود جماعات مسلحة متطرفة في القلب السوري، يبقى السؤال، من الذي غذاها؟ من الذي أهملها؟ بل من الذي قمع واستبد حتى خلقها بكل غضبها وشراستها؟
نعم هي أموال غربية وخطط إمبريالية، ولكن التنفيذ سياسي داخلي بكل تأكيد. لا مجال هنا للنسيان أو التسامح أو البدء من جديد، لقد ذهب النظام بعيداً في تغذية حمام الدم هذا حتى أصبح وشيكاً على الغرق فيه، لا بد له أن يذهب، وبمغادرته ومحاسبته ومعاقبة رأسه ومعاونيه كمجرمي الحرب الأخطر في القرن الواحد العشرين، قد تجمع سوريا شتاتها، وقد تبدأ من جديد، لا بد لها أن تبدأ من جديد.